الفقر ليس عيبا حتى يعاب الفقير عليه، والبائس المحروم على انكساره أمام الحاجة وما يواري به سوأة العوز والفاقة.. الفقر لا يمكن حصره في ناحية من النواحي، ولا اختصاره في المأكل والمشرب والملبس بل في كل ما يوفر للفقير وأسرته ومن يعول العيش الكريم من المسكن والأثاث اللائق ، ومن الدخل المادي والدعم المعنوي الذي يشعره بذاته ويرفع عنه مذلة الفقر وهوانه ، ويُذِيب جميع الفوارق التي تشكلت وبدأت تتشكل في نسيجنا الاجتماعي جراء الفقر وآثاره السلبية.. حقا إن... الفقر في حد ذاته ليس عيبا، لكن العيب أن نتجاهله ولا نكترثَ له، ولا نتلمسه في الفقراء الذين يعيشون بيننا ويوجدون معنا ، وربما في الجوار منا، دون أن نحس ولا نشعر بما هم عليه من الفاقة والفقر وتردي الظروف والأوضاع ومصاعب الحياة والعيش!! أين نحن أمام ما يعانونه ويقاسونه من وطأة الفقر، ودوائر كربه التي تحاصرهم من الداخل ، بما يعتصرهم من آلامه وأوجاعه ، ومن الخارج بما يلاقونه من التجاهل وعدم الاكتراث؟! ونحن نتقلب في النعيم بما فتح الله به علينا من خيرات هذا البلد ، وما أغدقه علينا حكاما ومحكومين ، مواطنين ومقيمين، من نعمه التي لا تعد ولا تحصى، حتى إنه ليخال للكثير منا لما هم فيه من العيش الرغيد وللآخرين لما يتصورونه عنا من الغنى والثراء إنه لا أثر للفقر، ولا وجود للفقراء، في المجتمع السعودي ، مع إن الفقر حالة قائمة، وحقيقة ماثلة لا يمكن تجاهلها وإنكارها بعيدا عن المكابرة والغرور!! إن الدول الكبرى التي لم تمنع ثرواتها الهائلة وتقدمها العلمي والتكنولوجي من وجود الفقر والفقراء، من كلا الجنسين ومن مختلف الأعمار، الذين يجوبون شوارع أكبر وأغنى اقتصاديات العالم بما يواري سوءاتهم من الأسمال البالية، ويفترشون الأرصفة والحدائق العامة ، ومداخل العمائر والأسواق وزوايا الأمكنة والأزقة الخلفية ،ومحطات المترو والقطارات، ويسكنون وسط مكبات النفاية وفي أنفاق وأقبية مجاري الصرف الصحي تحت سطح الأرض في مدينة كباريس ولندن وغيرها من مدن الغرب والشرق، التي يموت فيها الفقير على قارعة الطريق من البرد والجوع والأوبئة،ووسط الاحياء الفقيرة فيما يعرف بمدن الصفيح التي تسيطر عليها عصابات الجريمة من بارونات المخدرات وبيع الأطفال والأعضاء البشرية والرق الأبيض بما يتم استغلاله من فقرهم ودفعهم وإرغامهم على ممارسته من الدعارة والشذوذ والانحراف، وغير ذلك من الممارسات التي تمتهن فيها وتبتذل كرامة الإنسان ويستغل أبشع استغلال، في واقع من الحضارة المادية التي يباع فيها كل شيء حتى الإنسان ، ورغم قدرات تلك الدول وماتستنفذه من جهود للقضاء على هذه (الآفة) الا أن واقع الفقر مازال ملموسا لديهم، وفوق ذلك يأتي من هذا الواقع من يطالب وينادي غيره بحقوق الإنسان، بصوت مرتفع خلفه من الباطل ما يدفعه دون أن يحس ويشعر ما يحدث من حوله وفي الساحة الخلفية لهذه المنظمة أو تلك الهيئة ، من حالات الفقر والبؤس وحرمان الإنسان من أبسط حقوقه في الحياة والعيش!! إن ما يمنحه المكان من الخصوبة والارتواء لحبة قمح حتى تكون سنبلة وحتى تكون السنبلة حقل سنابل ،لا يمنحه الإنسان لأخيه الإنسان أمام ما يتربص بنا وبهذا العالم من غول الفقر الذي يقول عنه أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله وجهه:"لو كان الفقر رجلا لقتلته" لما رآه رضي الله عنه من الفقر في هيئة الفقير وأحس بوطأته عليه ،وما يطاله من إرهاصاته وتداعياته في صيغٍ مركّبةٍ من القتل الجسدي والمعنوي يظهر معها الوجه القبيح والصورة البشعة للفقر بالموت جوعا وذلا وحرمانا للفقير. إن ما يحتاج إليه الفقراء من العيش الكريم أولى بالرعاية والاهتمام من سواه ، خصوصاً إذا ماعرفنا أن هناك مليارات تصرف على أنشطة أخرى كمزايين الإبل وغيرها من الأنشطة الاجتماعية التي تأخذ أكثر مما تعطي ، بل إنها تعد منظر يُجسِدُ الغضب على واقعٍ تُدفعُ فيه ملايين الريالات لشراء بعض أنواع الحيوانات للتفاخر بها أو تنظيف مال مصدره مجهول. إن الزيارة الشهيرة لخادم الحرمين الشريفين حفظه الله لبعض الأحياء الفقيرة في مدينة الرياض ووقوفه بنفسه على أوضاع سكانها من الفقراء والمساكين، والإطلاع عن كثب على ظروفهم الحياتية والمعيشية، وهو يدخل من منزل إلى آخر ومن أسرة إلى أخرى ،وقد انزوى الوطن بين جنبيه إنسانا ومكانا، واستوى في آفاق رؤيته وأجواء نظرته الأبوية الحانية ،التي تشكّل فيها الغد وتحقق معها الوعد بما أوصى به وأمر بتأسيسه من "صندوق محاربة الفقر" الذي لو كان رجلا لقتله الملقب "بحيدرة" كرم الله وجهه. وأمام هذه البادرة الإنسانية وبعد الفترة الزمنية التي مرّت على تأسيس هذا الصندوق لن نسأل عمّا تحقق على أرض الواقع لمحاربة الفقر إنما نسأل: كيف لهذا الصندوق ومن أين للقائمين عليه أن يشنوا هذه الحرب وأن يفتحوا الجبهات في كل النواحي على هذا الفقر الذي يعد ثالثة الأثافي، مع الجهل والمرض؟ الذي تمت محاربة آفتيه في كيانٍ وكادرٍ من الوزارةِ والوزير ووفق خطط وبرامج ودراسات وبحوث وبُنى، وكل ما احتاجه الجاهل والأمي حتى تعلم، والمريض حتى شفى، وعلى هذا المستوى من محاربة الجهل والمرض ينبغي محاربة الفقر حتى يجد الفقير القوت والكفاية من سعيه.. فلما لا يكون للفقراء وزارة ووزير تحت أي مسمى انطلاقا من أهداف هذا الصندوق ورسالته الواضحة والصريحة لمحاربة الفقر الذي يبقى معوقا له مؤثراته السلبية على جميع أوجه التنمية والتطور المجتمعي؟ كلنا على شجرة الحياة الضاربة بجذورها في تخوم الأرض، التي منها خلقنا وإليها نعود، هناك جذوع وغصون راوية وأوراق خضراء في ربيع من النعمة والنعيم ،وهناك أجذع وأفرع جافة وأوراق صفراء في خريف من الواقع الأليم ، الذي تنبثق فيه ورقة المولود الصغير للإنسان الفقير، والحياة التي تدب فيها وفيه بلهفة الظمأ، وحرقة الجوع، وحرارة الآهات والدموع، ما كان للورقة أن تعيش لولا ماتتمسك به من الحياة وتقاومه من القحط والجفاف، وما كان لهذا الصغير أن يعيش لولا ما يجهله من ذلك الواقع المرير، الذي أفاق على حقيقته وهو يتتبع المواسم والفصول في الوجوه المشيحة ،وكل ما حوله ومن حوله عالق في هموم الفقر وميراث الفقير للفقير.. إن جيوش الأفكار والآمال وملايين الأموال ، غير قادرة على محاربة الفقر مهما صدقت النوايا، وتوفرت الرغبة والإرادة والحماس، لان طاقة مئة حصان غير قادرة على جرِ عربة تحتاج لطاقة وقوة ألف حصان، وما تقوى عليه منظومة بحجم وزارة ، لا يقوى عليه كادر بحجم صندوق، لمحاربة الفقر الذي لا يمكن محاربته إلا بنفس الطريقة التي تمت بها محاربة الجهل والأمراض، لأن سَرية الصندوق أو كتيبته في أحسن الأحوال ، بعد الاستعانة بالاحتياط والمتطوعين والمتعاطفين_ رغم قلتهم وجهل بعضهم _غير قادرة على فعل شيء أمام جيوش الفقر الذي لا يعبأ بحياة ضحاياه، وعلى من يحاول أن يصل إليهم ، أن يجاهد حتى يصل إلى فئة قليلة من هؤلاء الفقراء المقطوعين المحرومين ،في قفرة الفقر في ظل هذا الوقع من "التهويش" على الفقر بدلا من محاربته...!!!