كسر أشبال المنتخب الليبي جمود الأقدام الذي لازم أجيالهم السابقة لعقود وكتبوا أخيراً بقلم التميز على صفحات الاستحقاق الأفريقي من بوابة باكورة ألقابهم في "الشان"، معلنين ولادة منتخب واعد بإحداثيات ملفتة. باسم السالمي "نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت".. لعل أشهر مقولات شيخ المجاهدين عمر المختار قد وظفت فيما مضى في ساحات الوغى التي شهدت التطاحن الليبي مع المستعمر الإيطالي… ولأزمان عديدة وأجيال متعاقبة ترسخت هذه المقولة في معجم الحرب والسياسة، بيد أن "أحفاد المختار" الذين احترفوا مداعبة "الجلد المدور" استلهموا فكر رمزهم الأوحد، ليفلحوا بعد عناء مرير مع عناد الزمن وسطوة الإنسان، في اقتحام منصات التتويج من هرمها الذهبي الأعلى وبوابتها القارية الأوسع. "الشان" أو كأس أمم أفريقيا للاعبين المحليين، لم تلقَ اعترافاً رسمياً من لدن "دولة الفيفا" وبقيت حبيسة حظوة مقتصرة على "كاف حياتو"، بيد أنها في مطلق الأحوال ومختلف القراءات، هي قطعاً تعني الكثير للكرة الليبية ومنتخبها اليافع، الذي تلمس بوادر النور وتحسس بريق الأمل من رحم المعاناة ووحشة المآسي. ماض أليم ومستقبل حالم شتان ما بين الأمس واليوم… لم تنعم اللبنة الأولى للكرة الليبية بنشأة عادية وصيرورة منطقية كما حصل لدى غالبية سليلاتها في العالم العربي، حيث نشأت في بيئة تحكمها الرجعية والاضطهاد وتحترف "اغتيال" المواهب وعرقلة النشاط دون أي وجه حق أو حتى مبرر على الأقل. كم هي كثيرة بوابات الظلمة والقهر التي رزحت تحتها الكرة الليبية لعقود عديدة وحصراً في فترة ما قبل ثورة 17 من شباط/فبراير، وعلى الرغم من أن اتحاد اللعبة في ليبيا تأسس سنة 1962 وانضم إلى الفيفا في 1964 قبل أن يقع إتمام الصورة بالتحاقه بكوكبة الاتحاد الأفريقي سنة 1965، لم يكن لهذا الانتماء الرسمي إلى الهيكلين الدولي والقاري، وقع على كرة الليبيين على صعيدي الأندية والمنتخبات. لسائل أن يسأل ما كان نوع العقبات التي تعترض أنشطة كرة القدم وبقية الرياضات في "الجماهيرية المنقرضة"… ولكي نكسب الجواب لا مناص من التعرف على بعض الخروقات التي حدثت في الأيام الخوالي والتي حكمت على كرة الليبيين بالتخلف لمحطات عديدة مقارنة بما حققته قريناتها وجيرانها المقربون كتونس والجزائر والمغرب ومصر. ومن أمثلة هذه العراقيل التي تتصف بالغرابة في أغلبها، تجميد نشاط مسابقة الدوري الليبي في مناسبات عديدة ويبقى أبرزها الفترة الفاصلة من سنة 1979 وحتى 1982 بعد صدور ما يعرف بالكتاب الأخضر، والذي نص في أحد بنوده على دحض ما يسمى برياضة النخبة، وهو ما كان ضربة قاضية مبكرة لأحلام الكرة والرياضة الليبية على حد سواء. وبرغم غياب الدوري كلياً نجح المنتخب الليبي في تنظيم أبرز حدث قاري واستضاف كأس أمم أفريقيا عام 1982، وبلغ نهائي البطولة ليصطدم بنظيره الغاني الذي جرده حلم نيل اللقب من بوابة ركلات الحظ. إنجاز الوصول إلى نهائي الكان لم يعني شيئاً، لرعاة الحكم آنذاك، وتابعوا مضايقاتهم غير المبررة والتي ساهمت في ضياع حلم التأهل إلى مونديال المكسيك 1986 وترك فرصة العبور تذهب للشقيق المغربي. كما لم تسلم الأندية بدورها من فضائح النظام، وكان نادي أهلي طرابلس نموذجاً حياً لمظلمة حصلت عام 1984 عندما حرم من خوض نهائي كأس الكؤوس الأفريقية أمام الأهلي المصري لأغراض وخلفيات لها صلة وثيقة برغبات أبناء الحاكم وقتها، والذين ساهموا بدورهم في تعكير صفو الجماهير والعمل على ترسيخ الفرقة بينها، وهو ما انعكس على عقلية المشجع واللاعب الليبي في مراحل لاحقة. "الشان".. فرصة القطع مع ما فات والتطلع لما هو آت كان من واجب القدر أن يمنح فرصة ل"سليلي المختار"، لكي يؤكدوا للعالم أن اللاعب الليبي قادر على الانتقال بموهبته من جنس الهواية واللااحتراف إلى قمة الالتزام وأوج النجاح، وهو ما ترجم على أرض جنوب أفريقيا التي زامنت ميلاد منتخب واعد سيحمل مستقبلاً آمالاً عريضة على كاهليه، تختزنها طموحات الشارع الرياضي الليبي بمختلف انتماءاته. أحدثت ليبيا مفاجأة من العيار الثقيل عندما اقتحمت البوديوم الختامي للمتوجين، محتكرة لقب البطولة للمرة الأولى في تاريخها، حاذية بذلك حذو جارتها تونس التي نالت شرف الفوز بلقب النسخة الثانية عام 2011 التي أقيمت بالسودان، وعلى حساب أنغولا في النهائي. الفاتح من شهر شباط/فبراير الحالي، لم يكن يوماً عادياً في مدينة كيب تاون، حاضنة حفل النهائي، حيث حصد "فرسان المتوسط" ثمرة جهودهم بحيازة لقب غال في خصوصيته وخصوصية الخصم المنافس على اللقب، والذي كان منتخب ال"بلاك ستارز"، الذي يمتلك مسيرة طويلة من المواجهات الثنائية مع نظيره الليبي ودون الدخول في تفاصيلها يكفي أن نقول إن الليبيين ثأروا "رياضياً بطبيعة الحال" من حسرة استمرت غصةَ في "حلوقهم" طيلة أكثر من ثلاثة عقود وتحديداً منذ 32 عاماً. 16 منتخباً أفريقياً جاهزاً مدعوماً بدوريات جارية، في مقابل ضعف التحضير والإعداد والمدرب الجديد الذي يشرف على المجموعة دون نسيان تجمد نشاط الدوري المحلي.. كل هذه العراقيل رمى بها أشبال المنتخب الليبي وراء ظهورهم، ليصعدوا درجات التفاؤل والثقة درجة درجة، ويدشن مغامرته بفوز على إثيوبيا (2-0) وتعادلين مع غانا (1-1) والكونغو برازافيل (2-2)، ليعبر إلى دور الثمانية في ثوب الوصيف، ويزيح عن طريقه عقبة الغابون، ومن ثم زيمبابوي وختامها مع غانا، وجميعها كانت عبر بوابة ركلات الحظ، التي لم تحجب أبداً أحقية أبناء المدرب الإسباني خافيير كليمنتي بالتتويج، أمام أعين عيسى حياتو وجوزيف بلاتر. كليمنتي.. الرهان الرابح تعاقب على تدريب المنتخب الليبي مدربون كثر سابقاً، ولكن سنكتفي بذكر مَن عملوا في نسخة ما بعد الثورة، كونهم ساهموا جميعاً وكل بما جاد به في مساعدة هذا الجيل على البروز ومنعوا الكرة الليبية من الانهيار يوماً ما، يمكن أن نعتبر الاستهلال بالمدرب البرازيلي ماركوس باكيتا أمراً منطقياً، فقد عمل منذ 2010 أي قبل الثورة وواصل بعدها إلى حدود "كان 2012″ عندما قرر الانسحاب من مهامه. وتسلم بعد ذلك المدرب الشاب عبدالحفيظ إربيش المقاليد الفنية، حيث نجح في بلوغ نهائي كأس العرب 2013 التي استضافته السعودية، علاوة على قيادته للمنتخب في تصفيات مونديال البرازيل 2014 ولكن النجاح لم يحالفه لأسباب عديدة، ليقرر اتحاد الكرة ممثلاً في رئيسه أنور الطشاني التعاقد مع المدرب الإسباني خافيير كليمنتي، الذي نجح سريعاً في لملمة أوراق المجموعة ودعمها بالوصفة الفنية الملائمة، فآتت أُكلها سريعاً، لما يمكن أن نسميها "صفقة الطشاني الرابحة". نشنوش.. ميلاد جديد لقبضة من حديد محمد نشنوش.. هو قطعاً أحد أبرز صناع هذه الفرحة الليبية التاريخية إن لم نقل أبرزهم على الإطلاق، حارس المرمى الذي حمل على عاتقه مسؤولية تقدم منتخب بلاده من دور إلى آخر بتصديه لركلات جزاء حاسمة ولعبه دور البطولة في مباراة النهائي أمام غانا عندما تصدى لركلتين وسجل واحدة.. ميلاد نشنوش أعطى فسحة من الأمل الكبير للجماهير التي أكدت أن الثغرة التي تركها الحارس المخضرم سمير عبود قد سدت، ليتحصل نشنوش على لقب "خير خلف لأحسن سلف" عن جدارة لا نقاش حولها. إبداع نشنوش، لم يحجب المساهمة الفاعلة لزملائه في هذا الإنجاز، ونذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر علي سلامة وأحمد التربي ومعتصم صبو وعبدالرحمن العمامي وأسامة شطيبة وأحمد المقصي وفيصل البدري ومحمد الغنودي وعبدالسلام الفيتوري، دون نسيان جهود الجهاز الفني والطبي والإداري، فالجميع ساهم كل من موقعه في تجسيد حلم السنين إلى حقيقة. فرحة عارمة وآمال قادمة ملامح البهجة التي غمرت الجماهير الليبية كانت عصية عن الوصف لدرجة أن الحكومة المؤقتة برئاسة علي زيدان، قررت تسمية اليوم الموالي لختام "الشان" والموافق للأحد 2 شباط/فبراير، يوم إجازة رسمية في كامل البلاد، وذلك مسايرة منها لغبطة شعبها الذي اشتاق لمعالم الفرحة. ما يمكن أن يلبس ثوب "الأهم" في الوقت الراهن، هو أن يأخذ أشبال المنتخب الواعد بناصية هذا اللقب التاريخي ويؤسسون وفقه بداية مرحلة جديدة تولد فيها ليبيا "كروياً" من جديد، فهذا الإنجاز في حاجة إلى تأكيد كي لا يندرج في أرشيف النسيان، والاستهلال سيكون بمسابقات الأندية في مغامرتي دوري أبطال أفريقيا (أهلي بنغازي) وكأس الاتحاد الأفريقي (أهلي طرابلس)، حيث سيحمل هذا الثنائي على عاتقه مسؤولية تشريف الكرة الليبية وتكملة المشوار الوردي الذي قام به المنتخب على أرض زعيم السمراء الراحل "مابيدا"، أملاً في أن تكون الكرة الليبية قد استوعبت حكمة الكاتب الأميركي مارابل مورغان، الذي عرف فلسفة التفوق في قوله: "المثابرة والنجاح توأمان، الأولى مسألة نوعية والثاني مسألة وقت".