اسمها مريم ويلقبونها، (أم الخير)، يحبها الجميع في مصحة مستشفى الأمراض النفسية والعصبية بمدينة تعز ويناديها أكثر من 100 مريض ب"ماما مريم"، فهي التي تتعهدهم منذ 40 عاماً باستمرار حاملة إليهم الخبز والفاكهة والتمر، فيما انقطع عن غالبيتهم زيارة أقاربهم. ابتدأت (أم الخير) مشوارها الإنساني أو كما تحب أن تسميه "التجارة مع الله" حسب قولها قبل 40 عامًا بمجهود شخصي، حيث كانت تقدم الطعام للمرضى في المصحة وللمعدمين في السجن المركزي وللأيتام كل يومي اثنين وخميس عندما كانت تتوفر لديها النقود التي تكسبها من بيع محاصيل زراعية.. وفي غضون السنوات الأخيرة اقتصر دورها على المصحة فقط، ولم تتوقف إلا في فترة النزوح بداية الحرب في مدينة تعز. تقول مريم إن البداية كانت فكرة راودت بالها قبل 40 عاماً، وأرادت لهذه الفكرة أن تحيا وتستمر مدى عمر تلك الشابة التي أصبحت تعرف حالياً بالحجة مريم، وهي تناهز الثمانين.. الشابة التي عملت في (بسطة للبطاط) حينها، تحديدا في عهد الرئيس السلال، حيث كانت تدر عليها هذه البسطة الكثير من المال تقول: "كان العمل تمام وكنت احصل فلوس كثير"، ومن منطلق القناعة وتواجد المال راودت الشابة مريم فكرة "الاتجار مع الله"، كما تسميها، حيث أحبت العمل الإنساني لكنها لم تستطع تحديد الجانب الذي تريد أن تقدم فيه المساعدة. رأت الشابة حينها أن أكثر الفئات إهمالاً هي فئة المرضى نفسيًا وعقليًا في المصحة، والفئات المعدمة في السجن المركزي خصوصًا السجينات، كون الفئة الأولى تخلى الأهل عنهم في أشد الأوقات احتياجا إليهم، وكون الفئة الثانية مهما كان جرمها كبيراً تبقى بحاجة للمساعدة والاهتمام. وخلال عملها في بيع (البطاط) بسوق المدينة القديمة كانت مريم تجمع المال من أجل المساعدات الإنسانية لتلك الفئات إضافة إلى فئة الأيتام، حيث عملت على تقديم الوجبات بشكل شبه أسبوعي للمصحة وللسجن المركزي وللأيتام خلال الأيام العادية، والملابس خلال الأعياد. كانت (أم الخير) توفر كل ما تستطيع للمرضى والمساجين، حيث كانت تهتم بتنوع الأغذية فتقدم اللحم والسمك والمياه والمشروبات حسب المبالغ التي تحصل عليها كل اسبوع من (البسطة) التي كانت تبيع بها البطاط. صلح بطريقة مريم لم يقتصر عمل مريم في مرحلة من مراحل عمرها على تقديم المساعدات فقط، بل تجاوز ذلك حسب قولها، حيث اقامت الصلح بين اسرتين يمنيتين من أجل اخراج سجينة تعرفت عليها وهي تقدم الطعام للمساجين في السجن المركزي كان قد حكم عليها بالإعدام بينما تمتلك أطفالًا لا يملكون سندًا سواها. تقول مريم، وهي لا تحب ذكر الأسماء في قصتها التي كانت في تسعينيات القرن الماضي، إنه "كان هنالك امرأة البست تهمة قتل رجل في قريتها الكائنة في الحوبان ولم يكن هنالك من يدافع عنها، ووصلت لمرحلة حكم عليها فيها بالإعدام ولم يكن لأولادها سندًا أو معيلًا غيرها"، الأمر الذي جعل مريم تستأنف الجلسات وتبحث عن أولياء الدم من أجل التنازل كونهم لا يملكون أدلة تثبت تورط تلك السجينة بالقتل. عملت كما تقول كوسيط بين الأسرتين، ثم استطاعت كسب البنت الكبرى من بنات الضحية واقنعتها بفكرة أن تلك المرأة السجينة لا شأن لها في قتل والدها كونهم لا يملكون أدلة عليها، ثم قامت بدفع الدية لها حيث باعت بقرتها و"تبيعها" الوحيد من أجل توفير مال الدية والتنازل عن الدم لإخراج المرأة واعادتها إلى أولادها متاجرة بذلك سرا بينها وبين الله. إمكانيات تقل ولا دعم يذكر لمريم الكثير من الأعمال الانسانية والخيرية على امتداد عمرها، لكن الأهم والذي مازال حتى الآن هو تقديمها الخدمة الغذائية كل يوم اثنين وخميس لمرضى المصحة، لكن ما يتعبها حاليا أنها لم تعد قادرة على تقديم الدعم الذي كانت تقدمه بسبب قلة امكانياتها فهي لم تعد تقدم الأطعمة المتنوعة واللحوم والمياه، ولا حتى الملابس للمرضى كما عودتهم واصبحت مقتصرة على الخبز والفاكهة. لم تحض طيلة هذا العمر بأي مساعدة من قبل أي جهات اعتبارية أو منظمات لدعم جهدها الإنساني، بل إن اسمها شطب من قبل بعض الشخصيات من كشوفات المساعدات الانسانية بحجة أنها غنية وتستطيع أن توفر غذاء كل أسبوع لما يقارب 150 مريضا في المصح النفسي، كما تقول. بدون أسف وبدون حزن تذكر قصتها مع الشخصيات القائمة بالتسجيل للمساعدات الإنسانية، وتقول "ماكنتش محتاج للمساعدة، بس كانت شتساعدني وشتساعد عيالي بالمصحة". وتضيف مريم: "لقد سخر الله لي أناس أكثر منهم حبا للتجارة مع الله"، قاصدة فاعلي وفاعلات الخير الذين يدعمونها بالمال أحيانا ويساعدونها أحيانا أخرى في توفير الأغذية والفاكهة. هكذا أحبت مريم (أم الخير) المرضى في المصحة وهكذا تقضي عمرها في خدمتهم دون أن تربط بينها وبينهم أية قرابة أو صلة حقيقية، لكنها وجدت فيها قرابة الإنسانية والرحمة التي جعلتها طوال هذا العمر تنفق مالها غير أبهة للشهرة والمجد ولا لأخذ الصور من أجل المانحين والمنظمات، فأين العاملين في المجال الإنساني ليروا ما تقدمه هذه المرأة بصمت وحب.