في آخر مقابلاته الصحفية، كرس اللواء علي محسن الأحمر معظم تصريحاته لإبراز حجم المشكلة التي يرى أن بقاءه في منصبه يشكلها لإيران، وحرص على تصوير المطلب الشعبي المتمثل في تخليه عن منصبه كما وعد، وكأنه مطلب إيراني. ولقد صوّر تخليه عن منصبه وكأنه الشغل الشاغل للسياسة والدبلوماسية الإيرانية في الإقليم والعالم. "الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقوم بدور كبير وفعال، وبدبلوماسية نشطة، وعلى كل المسارات العربية والدولية، ومع غالبية أوساط الحزبية اليمنية، بل وفي عواصم خليجية وغربية، وهدف هذا الدور هو التخلص من قادة يمنيين بعينهم (يقصد نفسه طبعا)"، قال الأحمر في مقابلته التي نشرتها صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية، الأسبوع الماضي. لكن، لماذا يا ترى قد تبذل دولة كإيران كل هذه الجهود من أجل "التخلص من قادة يمنيين بعينهم" مثله؟ يتابع موضحاً: "خدمةً لمشروعها التمددي، أو لمجرد خلق الفوضى في اليمن والجزيرة العربية". هل تبذل إيران كل هذه الجهود فعلا للتخلص من الأحمر من أجل تحقيق أهدافها ومشاريعها في اليمن والجزيرة؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب أولا أن نجيب على السؤال التالي: ما مدى صحة حديثه عن الأهداف الإيرانية في اليمن والجزيرة، والهدفين المذكورين أعلى تحديداً؟ لدى إيران مشروع تمددي في اليمن والمنطقة، هذا صحيح. فمثلما تفعل في العراق ولبنان وبلدان أخرى، هي تدعم –وبطرق غير مشروعة- أكثر من طرف يمني في الشمال والجنوب؛ كالحوثيين وتيار علي سالم البيض. وقد تطرق إلى أبرز وجوه هذا الدعم كالمال والسلاح، وهو ما لم يأتِ به من عنده بالتأكيد. فطهران تضخ أموالا وأسلحة لأطراف يمنية حليفة لها بالفعل، ويأتي هذا في سياق إستراتيجيتها الإقليمية الرامية إلى إيجاد موطئ قدم لها في أكثر من بلد، لاسيما في ظل صراعها الإقليمي المستمر مع بلدان الخليج والقوى الغربية، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، من غير المستبعد ألا تسعى إيران إلى "خلق الفوضى في اليمن والجزيرة العربية". ففي إطار صراعها المتصاعد مع بلدان الخليج والغرب، سيبدو مفهوما مساعيها لنقل بؤر الصراع إلى مناطق وبلدان أخرى، ولاسيما إلى أرض أعدائها. باختصار، ما قاله الأحمر عن الأهداف الإيرانية في اليمن والجزيرة، ليس بعيدا عن الصواب. لكن، هل يشكل بقاؤه في منصبه بالفعل عائقا وحجر عثرة أمام مشروع التمدد الإيراني ومشروعها الفوضوي في اليمن والجزيرة العربية بشكل عام؟ لنعُدْ إلى الوراء قليلاً، إلى 2004، العام الذي اندلعت فيه أولى حروب صعدة بقيادة علي محسن، ونعيد صياغة المشهد هناك. لنفترض أن حركة الحوثيين كانت تتمتع عامذاك بنفس القوة والحضور والنفوذ الذي باتت تتمتع به اليوم. كانت تسيطر بالكامل على محافظة صعدة وأجزاء كبيرة من محافظات الجوف وعمران ومأرب المحيطة بها، وكانت موجودة بقوة في حجة ومحافظتي صنعاء وذمار، ولا تخلو محافظات كتعز وإب والحديدة من وجود لها، وكانت شعاراتها منتشرة بكثرة في العاصمة صنعاء وسائر المحافظات التي تضم وجودا لها. لنفترض أن المشهد كان على هذه الصورة، وأن علي محسن قاد حرب صعدة الأولى، و5 حروب بعدها، ضد هذه الحركة، للقضاء عليها، أو على الأقل لتحجيمها، وتحويلها من حركة دينية مسلحة يشكل حضورها خَصْمَاً كبيراً من حضور وسيادة الدولة اليمنية، إلى مجرد حركة مذهبية تعنى بتدريس المذهب الزيدي. لو كان الأمر بهذه الصورة، لكان حديث علي محسن عن المشكلة التي يمثلها بقاؤه في منصبه للمشروع التمددي الإيراني، مفهوماً ومنطقياً. غير أن ما حدث هو العكس تماماً. في 2004، كانت الحوثية مجرد لقب لعائلة يمنية بسيطة لا تختلف عن معظم العائلات في هذا البلد، وكان حلم حسين بدر الدين الحوثي، لا يتجاوز على الأرجح انتزاع الحق في تعليم المذهب الزيدي. وعلى مدى السنوات ال8 الماضية، حولت حروب صعدة ال6 وما تلاها في العامين الأخيرين من نزاعات، وجميعها لعب الأحمر دوراً قياديا رئيسيا فيها، حولت هذه العائلة الزيدية إلى حركة دينية مسلحة كبيرة تبسط نفوذها على أجزاء كبيرة من الأرض اليمنية، وهي الحركة التي أصبحت تشكل قوة أساسية في البلد لا يمكن تجاهلها. باختصار، علي محسن لم يفشل في حروب صعدة فحسب، بل نجح في تحقيق ما هو أسوأ من الفشل، أو بعبارة أخرى: ما بعد الفشل. لقد حققت حروبه نتيجة عكسية تماما وكارثية للغاية. في الواقع، ما من طرف يمني أو إقليمي خدم مشروع التمدد الإيراني خلال السنوات ال8 الأخيرة، أكثر من علي محسن. ألم يقدم لها على طبق من ذهب حركة الحوثيين، الحليف القوي في شمال اليمن، الذي يعده البعض معادلا لحزب الله في جنوب لبنان؟ لقد كان له الدور الرئيسي في صناعة هذه الحركة من العدم تقريبا. وإذن، على أي أساس بنى علي محسن نظريته القائلة إن بقاءه في منصبه سيشكل عائقا وسدَاً منيعا يحول بين إيران وبين نجاحها في مشروعها التمددي داخل اليمن؟ أمضيت أياماً وأنا أبحث عن إجابة منطقية لهذا السؤال، وكنت كل مرة أصطدم بعلامة تعجب ضخمة وصدئة تماما مثل علي محسن ومبرراته التي يسوقها لنا وللسعودية وقطر من أجل البقاء في منصبه. بعد كل هذه النتائج العكسية والكارثية التي أفضت إليها حروبه في صعدة، كيف يستمر في تصوير أن بقاءه في منصبه يشكل عائقاً أمام مشروع التمدد الإيراني؟! لا أستطيع تصور أن هناك شخصا يمكنه أن يتحدث بكل هذه الثقة عن دوره المحوري والحاسم في الحد من المشروع الإيراني في بلده، وسنده الوحيد في ذلك سجل فاشل كسجله في حروب صعدة، لا أتصور أن هناك شخصا مُضَادّاً للمنطق إلى هذا الحد. لابد أن هناك تفسيراً يجعلنا نتعامل مع كلام علي محسن باعتباره صادرا عن شخص عاقل. والتفسير المنطقي الوحيد الذي توصلت إليه هو: علي محسن لا يتحدث كقائد عسكري، وإنما كقائد من نوع آخر. لابد أن الإستراتيجية التي يتبعها في مواجهة مشروع التمدد الإيراني على الأراضي اليمنية، ليست إستراتيجية عسكرية تتمحور حول المواجهات الحربية التقليدية وغير التقليدية، بل استراتيجية مختلفة كليا، وجديدة من نوعها. إنها الإستراتيجية العَقّارِية. وهذه الإستراتيجية ترتكز على أمرين: الأول، المواجهة العقارية الاستباقية المتمثلة في شن هجمات متوالية على الأراضي و"التِّبَاب" (جمع تَبَّة) في مختلف بقاع اليمن، وبَسْط اليد عليها، ثم امتلاكها ب"بَصَائِر" (وثائق مِلْكِيّة) مسجلة وغير مسجلة باسمه أو أسماء آخرين كثر من رجاله والمستثمرين باسمه وأنصاره. "الحرب خدعة"، هذه مقولة حربية شهيرة، لكنها بالنسبة لعلي محسن تبدو أكثر من ذلك، إنها تمثل الركيزة الثانية من ركائز استراتيجيته العقارية. لا يبدو أن علي محسن يرى في نتيجة حروبه في صعدة فشلا له وكارثة لبلده، ولا يبدو أن مشروع التمدد الإيراني في بلادنا يسوؤه، سواء من موقعه الافتراضي كقائد يمني، أو من موقعه الواقعي كقائد سعودي يتولى مع أمثاله مهمة تأمين السيادة السعودية على اليمن. ففي كلا الحالين، هو يستخدم الفوبيا الحوثية والإيرانية عموما كشيك مفتوح للحصول على دعم إقليمي سعودي وخليجي متعدد الوجوه، وكمبرر دائم للبقاء في منصبه كما يفعل الآن. من غير المستبعد أن يكون علي محسن قد سعى، ولا يزال، لأن يصبح مشروع التمدد الإيراني حقيقة في اليمن، طالما أن هذا المشروع سيحقق له هدفين كبيرين: يؤبِّده في منصبه، ويمكّنه من مواصلة مشروعه التمددي الخاص؛ مشروع التمدد العقاري، باسم مواجهة التمدد الإيراني. ف"هؤلاء (إيران وحلفاؤها) يحتاجون إلى من خَبِرَ بتكتيكاتهم وبأفاعيلهم، وبقائي وآخرين إلى جانب الرئيس القائد المشير هادي، يفشل مخططات هذه الأطراف"، يقول الأحمر بثقة كبيرة. وبثقة أكبر، أجدني في نهاية المطاف أشد على يده مؤيدا مشروع التمدد العقاري الخاص به. ففي ظل غياب دولة في اليمن تتبنى مشروعا للتمدد الوطني على أراضيها، لابد أن يصبح هذا البلد ساحة لكل المشاريع الخارجية، ولابد أنه سيكون بحاجة ماسة لقائد خبير يتصدى لمشاريع التمدد الأجنبية هذه، ولا أقصد بالضرورة قائدا عسكريا يخوض الحروب لكي ينتصر فيها، بل قائدا عَقّارِياً مخضرماً مثل اللواء علي محسن الأحمر، يحقق الانتصارات العقارية المتتالية على الأراضي الشاسعة و"التِّبَاب" وهَلُمّ جَرَّا.