من الأمور التي أوصلني إليها تفكيري، وأكدتها تجاربي في الحياة أن كل شيء -مادي وغير مادي- لا يخلو من النقيضين المتمثلين في الضرر والفائدة، ولهذا قالت العرب: ما زاد عن حدِّه جانس ضده.. وما حيرني -أو احترت في أمره كثيراً- هو الغفول أو الغباء، ومكثت أسأل نفسي، إذا ما سلمنا بضرره على صاحبه أو المبتلى به وعلى الآخرين، فأين فائدته؟؟ وعندما خطرت لي ملاحظة هي أن الغفول أو الغباء قد يفيد صاحبه في حالات الركون على الأغبياء وتحاشي متاعب ومضايقات الأذكياء والعارفين، قلت: لكن هذه قاعدة شاذة أي غير عامة ويصعب تعميمها.. وظل الأمر موضع اهتمامي إلى أن اهتديت إلى ما يمكن وصفها بفائدة عامة للغباء وتتلخص في أن كل من منَّ الله عليه برجاحة العقل والفهم والذكاء إذا ما استمع إلى مغفل أو غبي، فإنه لا يتوقف الأمر عند الاستفادة من تجنب ما يقوله أو يقوم به ذلك المغفل، ولا عند الترويح على القلب بالتندر عليه، ولكنه يستفيد مما هو أعظم وأكثر فائدة، ألا وهو التوجه إلى الله بالشكر والحمد، لأنه حماه من أن يكون كذلك المغفل أو الغبي. وهذا ما لا أدّعي أني توصلت إليه بتأملاتي وبحثي، ولكن من خلال ما يصادف المرء عند القراءة، فقد كنت ذات مساء أحاول الترويح على النفس قبل الخلود إلى النوم، وبعد ليلة كئيبة بالمحللين ونشرات الأخبار، تناولت المجلد الأول من كتاب (الضحك.. تاريخ وفن) للكاتب السوري نصر الدين البحرة ومما وردت بين صفحاته هذه الحكاية: "تكلم رجل في مجلس عبدالله بن عباس فأكثر الخطأ -وكان بن عباس يتضايق من تلك الأخطاء- وعندما ضاق به الحال التفت إلى عبدٍ له وقال له: اذهب فأنت حرٌّ لوجه الله.. فما كان من ذلكم الغبي إلا أن قال لعبدالله بن عباس: هل أعتقته شكراً لله؟ ولماذا؟! أجابه بن عباس: نعم أعتقته حمداً وشكراً لله، لأنه لم يجعلني مثلك". هنا توقفت وقلت لنفسي وجدتها، أن للغفول والغباء فائدة عامة، وهي شكر الله لانه لم يجعلنا مثل المصابين به، ثم تساءلت قائلاً: ترى لو كنا في زمن الجواري والعبيد، كم عبد سيعتقه مالكه شكراً لله الذي جنّبه ما يفعله ذلك المغفل أو يتلفظ به، وكم جارية ستُعتق خاصة في المساء، ونحن نستمع إلى نشرات وقرارات ومحللين ينطبق عليهم القول (لعن الله المحلل والمُحَلل له). أليس لكل شيء فوائده ومضاره حتى الغفول والحماقة والغباء؟ هذا ما أراه.