ضرب جمال الدين الأفغاني مثالا للحاكم الذي قرب إليه نافذين، فصاروا يتحكمون به، ولا يقدر على مقاومة نفوذهم وتحكمهم سوى بالابتهال إلى الله.. كان السلطان العثماني ذات فترة غاضبا من جمال الدين بسبب تهم اختلقها خصومه في القصر غيرة منه، وأوغروا بها صدر السلطان، وفي واحدة من اللقاءات معه بين له الأفغاني حقيقة الأمر، وكشف له أن المحيطين به غير مؤتمنين، وأنهم يعملون لأنفسهم، فلم يفعل السلطان غير الدعاء عليهم، كالعجوز الضعيف حسب تعبير الأفغاني. ثم ذكر الحكاية التالية: قيل إن أميرا استزار رجلا في قصره، فلما جاء الرجل وجد على باب القصر كلبا هائلا، عقورا يجرأ على الأسود، وربما افترسها، فهر عليه ونبح، وتحفز للوثوب، فخاف الزائر وأحجم عن الدخول.. وفي أثنا ذلك أشرف الأمير من نافذة القصر، وأهل بالزائر وسهل، واستعجله بالصعود إليه. قال له الزائر: أيها الأمير، كيف الوصول إليك وهذا الكلب العقور المدهش باسط ذراعيه، فاغر فاه؟ انهره، أو امر من يمنعه عني. فقال الأمير: أنا من هذا الكلب أخوف منك! ودلالة الحكاية واضحة، والحكيم من يتعلم منها.. يستعين الأمير بكلب لحراسته، ويحسبه صديقاً حميماً، فإذا به يتحول إلى عدو مهيمن مبين وربما كان سببا لنهايته.. وقريب منها المثل الشعبي " لا تربي حنش في جيبك". وفي الآداب السلطانية، تحذير للأمير من المستشارين الذين يقدمون له مشورات تكون سببا في نكبته، ويكونون هم وحدهم المستفيدين من نتائجها، أو يزرعون داخل رأسه الشك في ولاء شخص ليضعفوا مصادر قوته ثم يتفردوا به، ويصير بين أيديهم خادما مطيعا، ينفذ الأوامر ويوقع على قراراتهم، التي يعتقد الناس أنها قرارات يصدرها بإرادته الخالصة. هارون الرشيد كان في فترة من فترات حكمه أضعف ما يكون أمام البرامكة، بعد أن مكنهم من النفوذ والقرار، ولم يستعد صلاحياته إلا بعد دفع تكاليف باهظة، أما الذين أتوا من بعده فقد صاروا لعبا بأيدي العسكر والأمراء إلى النهاية، ومن هوانهم أنهم كانوا يخلعون على أيدي بطانات فاسدة، وحسن الحظ منهم الذي تركته بطانته يعيش، ولم تقتله. وفي هذا العصر هناك شواهد كثيرة على رؤساء يتحكم بهم مستشاروهم وذوو النفوذ القبلي والعائلي الذين يقربهم منه ويخضع قليلا قليلا لإراداتهم وفسادهم ورغائبهم السياسية، ثم يضعف أمامهم، ويتحمل أوزارهم، فإذا أطاحوا به نسبوا إليه الفساد كله والأخطاء كلها.