حين تفتح أغنية أو مقطعاً موسيقياً وبجانبك طفلٌ لا يتعدَّى عمره أربعة أشهر، لا شك أنك ستراه يحرِّك يديه ورجليه، ويبتهج ويضحك ويتراقص.. رغم أن هذا الطفل لا يعلم هل الموسيقى حلال أم حرام، ولم تصله فتاوى بن عثيمين وبن باز وعايض القرني.. لأن هذا الطفل تصرَّف بفطرته.. وحين تُقفل صوتَ الموسيقى تراه يتوقف عن الحركات الراقصة، وقد يبكي ولا يهدأ إلَّا حين تعيد تشغيل الموسيقى مرة ثانية. من قال لهذا الطفل إن الموسيقى تبعث البهجة في النفس، حتى يبتهج ويتفاعل لسماعها؟ كان الحُداة يسوقون الجِمالَ بالغناء.. والرعاةُ يوجِّهون أغنامهم بصوت الناي والشبَّابة.. والأمهات يهدهدن أطفالهن بالغناء قبل أن يناموا.. والجيوش في المعارك تُقاد بالموسيقى الحماسية.. والمزارع يحرثُ الحقلَ وهو يؤدي المهاجل والزوامل.. فالموسيقى هي اللغة الوحيدة التي اصطلح عليها كلُّ البشر، وهي اللغة التي يفهمها الجميع. "المغْنَى حياة الروح، يسمعها العليل تشفيه، وتداوي كبد مجروح، تحتار الأطباء فيه".. حين غنت أمُّ كلثوم هذه الأغنية لم يكن الغرب قد توصَّلوا إلى العلاج بالموسيقى، لكن الشاعر بيرم التونسي كان يدرك ذلك، لما يستشعره في نفسه المأزومة التي تنفرج بمجرد أن يستمع إلى الغناء. الموسيقى تهذِّب النفس وترتقي بالروح، ومن ينصتُ إليها يؤمن بالإنسانية ويقبل بالآخر، ولن يفكر يوماً في ارتداء حزام ناسف، ولن يستطيع أحد أن يجرّه إلى كلِّ فعل يخالف إنسانيته. قد يقال إن هذا الكلام فارغ.. نعم هو فارغ عند من لا يعرف الموسيقى وسحرها وتأثيرها في تهذيب النفس، وفي الفطرة السليمة التي تتجسَّد في ابتهاج طفل لم يتجاوز أربعة أشهر حين يستمع إليها.. فالطفل هو القياس الأنسب للفطرة السليمة، لأن الطفل كما يُقال "ختمة مغلَّقة".. والختمة هي إشارة إلى الطهارة المطلَقة.