لأول مرة في تاريخ مصر.. قرار غير مسبوق بسبب الديون المصرية    لحظة وصول الرئيس رشاد العليمي إلى محافظة مارب.. شاهد الفيديو    قائمة برشلونة لمواجهة فالنسيا    المواصفات والمقاييس ترفض مستلزمات ووسائل تعليمية مخصصة للاطفال تروج للمثلية ومنتجات والعاب آخرى    رئيس كاك بنك يشارك في اجتماعات الحكومة والبنك المركزي والبنوك اليمنية بصندوق النقد والبنك الدوليين    الإطاحة بوافد وثلاثة سعوديين وبحوزتهم 200 مليون ريال.. كيف اكتسبوها؟    - عاجل امر قهري لاحضار تاجر المبيدات المثير للراي العام دغسان غدا لمحكمة الاموال بصنعاء واغلاق شركته ومحالاته في حال لم يحضر    العميد أحمد علي ينعي الضابط الذي ''نذر روحه للدفاع عن الوطن والوحدة ضد الخارجين عن الثوابت الوطنية''    مدير شركة برودجي: أقبع خلف القضبان بسبب ملفات فساد نافذين يخشون كشفها    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    وفاة امرأة وإنقاذ أخرى بعد أن جرفتهن سيول الأمطار في إب    رغم القمع والاعتقالات.. تواصل الاحتجاجات الطلابية المناصرة لفلسطين في الولايات المتحدة    الهجري يترأس اجتماعاً للمجلس الأعلى للتحالف الوطني بعدن لمناقشة عدد من القضايا    منازلة إنجليزية في مواجهة بايرن ميونخ وريال مدريد بنصف نهائي أبطال أوروبا    استهداف سفينة حاويات في البحر الأحمر ترفع علم مالطا بثلاث صواريخ    افتتاح قاعة الشيخ محمد بن زايد.. الامارات تطور قطاع التعليم الأكاديمي بحضرموت    الذهب يستقر مع تضاؤل توقعات خفض الفائدة الأميركية    اليمن تحقق لقب بطل العرب وتحصد 11 جائزة في البطولة العربية 15 للروبوت في الأردن    ''خيوط'' قصة النجاح المغدورة    واشنطن والسعودية قامتا بعمل مكثف بشأن التطبيع بين إسرائيل والمملكة    وفاة ''محمد رمضان'' بعد إصابته بجلطة مرتين    «الرياضة» تستعرض تجربتها في «الاستضافات العالمية» و«الكرة النسائية»    الريال اليمني ينهار مجددًا ويقترب من أدنى مستوى    كانوا في طريقهم إلى عدن.. وفاة وإصابة ثلاثة مواطنين إثر انقلاب ''باص'' من منحدر بمحافظة لحج (الأسماء والصور)    بين حسام حسن وكلوب.. هل اشترى صلاح من باعه؟    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    السعودية تكشف مدى تضررها من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    ريمة سَّكاب اليمن !    الشيخ هاني بن بريك يعدد عشرة أخطاء قاتلة لتنظيم إخوان المسلمين    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    حزب الرابطة أول من دعا إلى جنوب عربي فيدرالي عام 1956 (بيان)    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    الأحلاف القبلية في محافظة شبوة    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقاومة اللاعنف.. هل هي ممكنة في العالم العربي؟
نشر في يمن فويس يوم 12 - 12 - 2014

تناقش سيلفي لوران، وهي أستاذ مساعد في الدراسات الأمريكية في معهد العلوم السياسية في باريس، فكرة المقاومة السلمية أو اللاعنف من خلال أشهر المعارضين السلميين، وهم الهندي “المهاتما غاندي”، والأمريكي “مارتن لوثر كنغ”، والجنوب إفريقي “نيلسون مانديلا”.
ألهمت مقولة غاندي “لا تأتينا الفكرة إلا إذا تهاون الفأر واستسلم للقط ليفترسه” مارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديلا، ليقاتلا بطريقتين متباينتين. تتساءل الباحثة سيلفي عن حدود اللاعنف، حيث لم يتبع المهاتما إلا شكلًا خاصًا من أشكال الكفاح والمقاومة؛ وقتئذ نتساءل:
هل يجب علينا أن نختار بين غاندي ولينين من أجل تحرير شعب مظلوم؟ في نظريته عن العنف، قال الفيلسوف الفرنسي الماركسي جورج لابيكا إن “الفروق القديمة بين العنف الشرعي والعنف اللاشرعي تم تحريفها باستمرار عن طريق مركزية الإرهاب في أنظمتنا التي تقود الحرب المعاصرة”. ويستنكر الاحتفال المتكلف والمنهجي للسلام، الذي ترمز إليه جائزة نوبل، والوعظ الجماعي إلى “تهذيب الأعراف والسلوك”. وفقًا لجورج، “من غير الممكن تطبيق نظرية اللاعنف؛ بسبب الاستعمار الحديث القاهر”. ومع ذلك، يجب أن نتذكر أن اللاعنف لايعني رفض الصراع.
تعتبر جنوب إفريقيا مثالًا على مختبر استثنائي من أجل التحرر الوطني، بما في ذلك نيلسون مانديلا الذي يجسد شخصية الملاك الحارس والقدوة. انضم والد الأمة الجنوب إفريقية بعد إطلاق سراحه في عام 1990، إلى مجموعة القديسين العلمانيين إلى جانب غاندي ومارتن لوثر كينغ، عزم هؤلاء الثلاثة على إخراج الشعوب الملونة من الدرك الأسفل من التاريخ، وعلى عكس هوتشي منه (مؤسس الدولة الفيتنامية الشمالية ورائد النهضة القومية في الهند الصينية)، أو أحمد بن بلة (أول رؤساء الجزائر بعد الاستقلال، من 15 أكتوبر 1963 إلى 19 يونيو 1965، ناضل من أجل استقلال البلاد عن الاحتلال الفرنسي)، تنظر الشعوب إلى هؤلاء كأساطير رومانسية للسلام.
لا يمكن تجاهل أو إنكار المعارك التي خاضها “غاندي، كينغ، مانديلا” ضد الظلم الأبيض، فكل واحد منهم يعتبر مدرسة للنضال عبر اللاعنف والعصيان المدني في سبيل الحرية وحقوق الإنسان: اختلاط فكر المهاتما مع كينغ ومانديلا اللذين حصلا على جائزة نوبل للسلام، لا يزال واحدًا من الجوانب الأكثر إثارة في تاريخ النضال ضد الحكم الاستعماري.
لم يلتقوا يومًا ، لكنهم رفاق في المقاومة والكفاح، عندما أنجبت مدينة جوهانسبرغ مانديلا، كان غاندي قد أعد فلسفته السياسية وبدأ الهنود في النضال من أجل التحرر والاستقلال، وعبر المحيط الأطلسي، وصف الفصل العنصري للأمريكيين من أصل إفريقي ب”نفي الحضارة”. كلمة غاندي، مبادئه وأخلاقه، لم تكن المعلمة والموجهة لمعركة مانديلا فقط في جنوب إفريقيا، بل كانت أيضًا الملهمة لمعركة مارتن لوثر كينغ في الولايات المتحدة.
مصادر اللاعنف، وقراءات غاندي
من الأوائل الذين حرضوا على العمل بأسلوب العصيان المدني، كان الفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو الداعي لإنهاء العبودية، والمنظر الأول للمقاومة السلبية، الذي تحدث عنها في كتابه لعام 1849 “العصيان المدني”، يعتقد أن المسؤولية الفردية تستطيع لوحدها توجيه مصير الرجال، الذين لا يخضعون لسلطة حكومة مدنية.
ومن ثمّ، فإن القانون ليس إلا شكلًا من أشكال العنف الذي يدعي الشرعية، يقول ثورو موجهًا كلامه إلى المجتمعات: «لا يتعين أن تعلموا الناشئة احترام القانون بمقدار ما ينبغي أن تعلموهم احترام الحق”، ثم يتساءل: “أليس من الجائز أن يصيب الفرد وتخطئ الحكومة؟ هل يجب أن نفرض القوانين على الناس فرضًا، لا لشيء إلا لأنها صيغت على هذا النحو، ولأن نفرًا من الناس قد قرر أنها على صواب؟ هل ثمة ما يحتم على الفرد أن يكون أداة تنفذ عملًا لا يوافق عليه؟».
سجن هنري لرفضه دفع الضرائب ولاحتجاجه على حرب المكسيك ومعاملة العبيد وإفناء الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليين، ولايزال يمثل روح التمرد للآباء المؤسسين والمدافعين عن “الحقوق غير القابلة للتقادم” التي لا تسقط بمرور الزمن، كتب هنري يومًا: “في ظل حكومة تسجن الناس ظلمًا، فإن مكان الرجل العادل أيضًا في السجن”، وقد تأثر به كثير من المفكرين المؤيدين لمبدأ اللاعنف، منهم غاندي ومانديلا وكينغ، الذين رأوا فيه الأب المعارض لحرية المجتمع المطلقة، المناصر للعدالة الاجتماعية، المناهض لحمل السلاح بدافع الضمير والوجدان، ومؤلف كتاب “ولدن” الذي لا يرتبط خطابه السياسي بفكر التحرر الجماعي.
قرأ الشاب غاندي أعمال هنري ثورو بحماس وشغف، على الأرجح وهو في سجنه الخاص في عام 1908، حيث وجد أصداء معركته. ومن المفارقات، أنه سجن أيضًا لمعارضته القانون ودفاعه عن العمال الهنود في جنوب إفريقيا عندما كانت مستعمرة بريطانية. لكن مفهوم العصيان المدني، وهو ما يعني “المقاومة السلبية” والمعزول عن بقية العالم لا يتوافق مع المثل العليا لنضال الشاب غاندي الذي يدافع عن حقوق الآلاف من العمال الهنود المهاجرين الذين يعيشون في ظل سلطة جنوب إفريقيا، التي لا تكترث بسكانها الملونين و تعرقل مشاريعهم.
لمدة عشرين عامًا، من ديربان إلى جوهانسبرغ، ناضل المحامي الهندي “غاندي” ليس فقط من أجل تحرير الشتات الهندي في الأرض الإفريقية التي يمثلها، لكن أيضًا لتنظيم المقاومة التكتيكية والروحية في الهند ضد التاج البريطاني.
وعلى الرغم من اطلاعه على الفكر المسيحي ومبدئه عن الحب غير المشروط، رفض غاندي نبذ استخدام القوة، حيث قال: “أفضل أن تدافع الهند عن كرامتها بقوة السلاح بدلًا من رؤيتها جبانة، لا تدافع عن نفسها. ولا أعتقد أن منهج اللاعنف يتفوق على وسائل العنف بلا حدود، أوأن الرأفة والتسامح أكثر نبلًا من العقاب، خلاصة القول أن لا يتساهل الفأر مع القط كي لا يفترسه”.
كان الأديب الفرنسي الحائز على جائزة نوبل للسلام في الأدب، رومان رولان، من الأوائل الذين نشروا أعمال غاندي في فرنسا، كما ترجم بطريقته الخاصة النظرية الغاندية عن اللاعنف. إلا أن النضال غير العنيف ضد الاضطهاد الاستعماري كما عرفه غاندي ليس مرادفًا للحب العام الفطري والعاطفة البشرية الطبيعية.
مارتن لوثر كينغ، محبوب السود
خضعت الولايات الأمريكية الجنوبية لسياسة التمييز العنصري التي عانى منها غاندي ومن ثم مانديلا في جنوب إفريقيا، التمييز العنصري الذي فرضته قوانين جيم كرو (ظهر مصطلح قانون جيم كرو لأول مرة في عام 1904 وفقًا لقاموس اللغة الإنجليزية الخاص بالولايات المتحدة. وغالبًا ما تنسب عبارة “جيم كرو” إلى أغنية “اقفز يا جيم كرو”، وهي أغنية ورقصة كاريكاتورية من أداء الممثل الأبيض رايس توماس تحتقر الأمريكيين السود)، التي تشبه الأمريكيين السود بالشعوب المستعمرة.
فضلًا عن ذلك، حاول وليام إدوارد بورغاردت ( أول أمريكي من أصول إفريقية يحصل على شهادة الدكتوراة، متخصص في علم الاجتماع وناشط سياسي ساهم في تأسيس الرابطة الوطنية لتحسين أوضاع المواطنين الملونين “السود” في عام 1909)، الدفاع عن الشعوب الملونة في كل مكان، لاسيما الأفارقة والأسيويين ضد الاستعمارية والإمبريالية الأوروبية. تميز تاريخ الكفاح من أجل تحرير الأفرو-أمريكي، ابتداءً من الثورات الأولى في القرن السابع عشر، بالعنف، كما أن التمرد المسلح، منذ عهد نات تيرنر (قائد ثورة العبيد في أمريكا في أغسطس 1831) إلى ماركوس غارفي (أحد المؤيدين للقومية السوداء و الناشر الصحفي) أو مالكوم إكس (مدافع عن حقوق السود، أفرو-أمريكي)، كان يبدو الخيار المفضل.
نظم القس كينغ مقاطعة السود لحافلة مونتغمري ردًا على اعتقال روزا باركس، بتهمة رفض التخلي عن مقعدها لرجل أبيض، لتبيان فعالية هذه النوع من المعارك أي معركة استخدام اللوحة والشارع وليعبر عن لاهوته في المقاومة السلبية، وقارئ ثورو، بطبيعة الحال، يرفض مبدأ طاعة القوانين الجائرة. يقول كينغ: “ليس كل الناس لطفاء ومحبوبين، لكنهم جميعًا يستحقون الاعتراف بكينونتهم كأعضاء في مجتمع بشري واحد”.
درس على يد اللاهوتي رينهولد نيبور من أصل ألماني لفترة طويلة ، تعلم منه فكرة الطبيعة البشرية المزدوجة القادرة على الخير والشر، لكنه يرفض الفردانية الخانعة أو المستسلمة التي أثنى عليها نيبور، هذا الناشط الاشتراكي، المربي ومحتقر الجرائم الأمريكية، مقتنع بأن الخطيئة هي السمة المميزة للنفس البشرية. في حين يريد لوثر كينغ، معتنق الثقافة الإنسانية الذي لا يعترف بخطاياه، التوفيق بين الأخلاق الفردية للكتاب المقدس والثورة الجماعية.
شكل اطلاعه على أعمال غاندي في هذا الصدد تقدمًا كبيرًا نحو المصالحة المسيحية والإصلاح الاجتماعي. في سيرته الذاتية، أشار إلى أنه كان على وشك التخلي عن السلمية المسيحية عندما أدرك قوة رسالة غاندي وأهميتها بالنسبة لتحرر الأمريكيين السود، وأثناء دراسته اللاهوتية، سمع لأول مرة كلمة ساتياغراها التي تعني “قوة الحقيقة”، لكنه لم يقتنع بقوة غاندي إلا في عام 1950، بعد سماعه الخطبة التي ألقاها مردخاي جونسون، رئيس جامعة هوارد، بعد عودته من الهند.
على المنبر، كان كينغ يستشهد بمسيرة الملح التي قادها غاندي في عام 1928 والتي اعتمدت على مبادئ اللاعنف وكان لها أكبر الأثر على استقلال الهند من الاستعمار البريطاني، كنموذج ينبغي أن يقتدي به السود.
في عام 1959، وبعد عودته إلى الولايات المتحدة قادمًا من الهند، كتب يقول: “مع مرورالأيام، تستخدم العقيدة المسيحية للمحبة المخلصة في مقاومة اللاعنف التي علمنا إياها غاندي، أصبحت واحدة من أكثر أسلحة التحرير المخيفة المتاحة للسود، إن فلسفة اللاعنف لغاندي هي الأسلوب الأخلاقي والعملي الوحيد، الصحيح والمسموح به للشعوب المضطهدة التي تقاتل من أجل حريتها”.
ارتبط التغيير الاستراتيجي بالتقدم التقني، فدخول التلفزيون إلى المنازل الأمريكية لعب بالفعل دورًا حاسمًا في نتائج حملة الحقوق المدنية، سواء كان التصويت عبر المحكمة العليا لإلغاء الفصل العنصري في المحطات التي تربط الولايات فيما بينها، أو التصويت في عام 1964 و65 لمنح الحقوق المدنية. هذه العين الثالثة، عين الكاميرا، شكلت سلاحًا قويًا وحاسمًا في المعركة التي قادها المدافعون عن العدالة العرقية وجد اللاعنف الآن حليفًا له: إنه “الصورة”.
مانديلا، من فانون إلى غاندي
لقد أثر نضال غاندي في جنوب إفريقيا لمدة عشرين عامًا بالتعاون بين الهنود والأفارقة أثناء مواجهتهم الظلم الأنغلو-هولندي على شخصيات كبيرة من حزب المؤتمر الإفريقي، منهم على سبيل المثال، ألبرت لوتولي، الذي تزعم المجلس الإفريقي القومي بين 1951 و1958، وكان الإفريقي الأول، وأول شخص من خارج أوروبا والأمريكتين يفوز بجائزة نوبل للسلام عام 1960، كان ألبرت مسيحيًا متدينًا، سخر علمه باللاهوت في تحرير البشر عبر قوة الحقيقة وأسلوب اللاعنف “الطريق إلى الحرية يمر من خلال الصليب”.
كما فعل كينغ، سعى ألبرت إلى التوفيق بين المهيمن والمهيمن عليه لتنظيم العصيان المدني السلمي: منذ عام 1919، وعلى غرار الهنود، تم تنظيم مسيرة كبيرة للاحتجاج على فرض سلطات الفصل العنصري على السود، احضار تصريح مرور. لكن “حملة التحدي الكبيرة ضد القوانين الجائرة” التي كانت في عام 1952 بتضامن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وحزب المؤتمر الهندي الجنوب إفريقي، ميزت بداية هذا الشكل من النضال.
حتى وفاته في عام 1967، كان ألبرت في وئام مع المدراء التنفيذيين الهنود -وخاصة الابن الروحي لغاندي في جنوب إفريقيا، نانا سيتا- كما حاول الحفاظ على خط عمل اللاعنف: من مقاطعات وإضرابات ومظاهرات سلمية.
يشير التاريخ الرسمي أنه بعد مذبحة شاربفيل الرهيبة في عام 1960، تحول حزب المؤتمر عن المقاومة السلمية من خلال خلق جناحها المسلح في العام التالي (رمح الأمة) بما في ذلك مانديلا الذي أخذ زمام المبادرة.
ولكن، ما بين السطور من السيرة الذاتية لهذا الأخير تظهر قصة أخرى: منذ عام 1954، ألقى مانديلا خطابًا أمام سكان صوفياتاون، إحدى ضواحي جوهانسبرغ، الذين دمرت منازلهم، قائلًا: “زمن المقاومة السلبية انتهى، اللاعنف هو استراتيجية غير مجدية أبدًا مع الأقلية البيضاء المستعدة للحفاظ على السلطة بأي ثمن، إن العنف هو السلاح الوحيد الذي من شأنه أن يدمر الفصل العنصري وأننا يجب أن نكون على استعداد لاستخدامه في المستقبل القريب”.
وكما حافظ كينغ ومالكوم إكس على علاقتهما المعقدة من عدم الثقة رغم التفاعل المتبادل بينهما، تعلم مانديلا من خطاب زعيم حركة “القوة السوداء” في جنوب إفريقيا، ستيف بيكو، الناشط ضد نظام الفصل العنصري (أبارتيد) في جنوب إفريقيا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، قتل على يد الشرطة في عام 1977، وكان يهدف لتغيير الوعي الأسود بمقولته الشهيرة “أقوى سلاح في يد القاهرين هو عقل (وعي) المقهورين” .
من خلال الأممية الثورية لستيف بيكو، اقترب مانديلا من منظر آخر للثورة عندما اقتبس منه اثنين من المبادئ الأساسية التي يدافع عنهما، التحرر العقلي من المستعمر وقوة العنف المنقذة، ألا وهو فرانز فانون، طبيب نفساني وفيلسوف اجتماعي أسود، خدم خلال الحرب العالمية الثانية في “جيش فرنسا الحرّة” وحارب ضد النازيين، تخصّص في الطبّ النفسي ثم عمل طبيبًا عسكريًا في الجزائر في فترة الاستعمار الفرنسي.
آمن فانون بأن مقاومة المستعمر لا تكون إلا باستخدام العنف فقط، فما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. وفي نفس العام الذي أطلق فيه مانديلا أول عملياته المسلحة، كتب فانون: “الاستعمار ليس آلة للتفكير، أو جسدًا يملك عقلًا، إنه عنف، لن ينحني إلا أمام عنف أشد منه”.
يعتقد فانون مثل مانديلا أن التحرر الحقيقي للمقهورين يأتي من خلال تعليمهم. وفي حال تراجع فانون قليلًا عن فكرة أن “الكفاح المسلح يستوجب قتل الأعداء”، فذلك لعدم ثقته بالعنف الفوضوي والمفرط الذي قد ينشأ من عدم تعليم الشعب وجهله. وجد مانديلا نفسه ، كما فانون، قريبًا من القوميين الجزائريين في حرب الدعم اللوجيستي والأيديولوجي الذي من شأنه أن يسمح بتكثيف الكفاح المسلح والتأكيد عليه.
تعلم وقتئذ كيفية التعامل مع المتفجرات والقيادة العسكرية. يقول فانون “على الشعب أن يتعلم كيف يُندد باللصوص، وعليه كذلك أن يترك تلك النظرة التبسيطية الساذجة التي كان يتميز بها إدراكه للمتسلط”.
في ظل كل هذا العنف الذي يكتنف الدول العربية، ورائحة السلاح التي تملأ حياتنا، لغتنا، إعلامنا، ثقافتنا، سلوكنا، يبدو الحديث عن لغة اللاعنف أو الحب نوعًا من الخيال، كما يطرح الاختلاف في القوة بين الأطراف المتنازعة السؤال التالي: هل يندرج سلوك أطفال فلسطين عندما يهاجمون جنود الاحتلال بالحجارة تحت الأعمال العنيفة أو اللاعنف؟! وإذا كان سلوكهم هذا عنيفًا، هل ينبغي عليهم استقبال الجنود الإسرائيليين بالشمع والورد الأحمر أو مقابلة الصاروخ الإسرائيلي بوسائل اللاعنف مثل الإضراب عن الطعام أو التظاهر؟! بعيدًا عن فلسطين و قضايا الأمة الكبرى، هل يفترض على الزوجة التي لطمها زوجها أن تقبل رأسه وتسجد له شكرًا على هذه الصفعة؟! بالطبع لا. يشترط غاندي لنجاح سياسة اللاعنف أن يتمتع الخصم بقليل من الضمير والحرية تمكنه من فتح حوار مع الطرف الآخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.