تنويه ؛ لولا خوفي من المساءلة يوم القيامة [علمت شيئاً ينفع الناس ولم تقله لهم] ماكتبت شيء . وندخل في مقال اليوم ؛ تحدثنا في المقالات الأربعة السابقة عن أهمية العمل الجماعي وتناولنا ثلاثة عوامل من عوامل الخلل ؛ انعدام الثقة ؛ الانسجام الزائف ؛ عدم الالتزام بالتنفيذ ؛ واليوم نتناول العنصر قبل الأخير [تجنب المساءلة ] . . . بعيداً عن فهمي الشخصي الذي لا يقبله مشاهير الحراك . . . معتمدين على طرح باتريك لينسيوني الذي اعتقد أنَّه لا يعرف مشاهير الحراك حتى يتآمر عليهم .
يُعرِّف لينسيوني المساءلة في العمل الجماعي ؛ [بأنَّها استعداد أعضاء الفريق لتنبيه زملائهم إلى أداء أو تصرفات من شأنها أن تضر بالفريق ما يؤدي إلى فشله في تحقيق أهدافه] . . . والنقد أحد وسائل المسائلة . ويرى لينسيوني أن جوهر هذا العامل هو عدم استعداد أعضاء الفريق للتغاضي عن التوتر الشخصي الذي يصحب مساءلة زميل على سلوكه . . . كما أن العلاقات الشخصية داخل الفريق تدفع أعضائه إلى التردد في مساءلة بعضهم بعضا حرصاً على هذه العلاقات . . . بينما الحقيقة العكس ؛ وهي أن عدم المساءلة يفسد العلاقات الشخصية ، بسبب الاستياء المكبوت في الأنفس الذي ينشأ بسبب إهدار البعض جهود الآخرين وفشل الفريق بكامله بسبب تقصير شخص أو أشخاص . . . والفرق العظيمة تُعزز علاقاتها الشخصية عن طريق مساءلة بعضهم البعض ويعبرون عن إعجابهم ببعضهم بالثناء على الأداء المميز . . . لأنَّهم يعتقدون أن الخوف والحذر من تخييب آمال زملاء محترمين هو السبيل الأنجع لتحفيز الأشخاص على تحسين أدائهم (يعني يحترموا تضحيات ونضال الآخرين) . . . وهذه الطريقة تتفوق على كل السياسات والأساليب الأخرى لتعزيز العلاقات وتحقيق الأداء الجماعي المميز . هكذا يرى لينسيوني أهمية المساءلة .
وفي رأيي أن انتقاد القائد ومساءلته أساس قيام الدولة القوية . . . وهي التي تصنع الفرق بين الحرية والعبودية . . . وهي أساس قيام الحضارة الاسلامية ، وعندما تركها المسلمون سقطوا . وفي تاريخنا أعظم قصص المسائلة في تاريخ البشرية . نتذكر قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ قالت له امرأة [ اتقي الله ياعمر] واستهجن القوم قولها ، بينما عمر فرح بقولها وقال [ويلٌ لكم إن لم تقولوها وويلٌ لي إن لم أقبل] وهذا اعتراف بأهمية المساءلة . ونتذكر السلطان محمد الفاتح الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم {لتفتحن القسطنطينية على يد رجل ، فلنعم الأمير أميرها ، ولنعم الجيش ذلك الجيش} . . . ونتذكر قصته مع المهندس الرومي "إبسلانتي" والذي قصَّر ارتفاع أعمدة المسجد لتناسب التصميم الذي وضعه متجاوزاً أمر السلطان برفع السقف حسب ارتفاع الأعمدة . . . فأمر السلطان بقطع يده . . . فذهب المهندس إلى القاضي "صاري جلبي" واشتكى ظلم السلطان . . . فأرسل القاضي إلى السلطان الفاتح يطلبه المثول في المحكمة ، وعندما حضر السلطان جلس على الكرسي فمنعه القاضي وقال له مكانك هو الوقوف بجانب خصمك . . . وعرض المهندس إبسلانتي القصة على القاضي . . . وأقر السلطان بصحة القصة . . . فحكم القاضي بقطع يد السلطان ، فاعترض المهندس على الحكم قائلاً وماحاجتي لقطع يده ؛ هو سلطان والجميع يخدمه ولن يعجز إذا قطعت يده ، أمَّا أنا فيدي هي التي تعيلني وتعيل عيالي وطلب تعويض مادي . . . فحكم له القاضي بعشر قطع نقدية يومياً كراتب مدى الحياة تعويضاً عن قطع يده ، فقبلها المهندس . . . وقبل السلطان الحكم وضاعفها إلى عشرين قطعة . المحاسبة الدنيوية أقرَّت قطع يد الفاتح الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبفتح القسطنطينية ، وافتداها الله على لسان خصمه
والسلطان سليمان القانوني كتب في وصيته أن يدفن معه في قبره صندوقاً . . . فقال العلماء لايجوز دفنه حتى نعلم مافيه ، ففتحوه ؛ فوجدوا فيه كل فتاويهم...! فقالوا ؛ نجى سليمان وأهلكنا . . . دفعه إلى ذلك الخوف من المساءلة امام الله .
وقوة امريكا وعظمتها من أسسها المسائلة ؛ فنتذكر الرئيس الأمريكي نيكسون عندما سائل نفسه وعاقبها بتقديم الاستقالة وترك منصب الرئاسة بسبب فضيحة ووترجيت ؛ لأنَّه كان يعلم أن التحقيق سيدينه ويعاقبه . . . ونتذكر خطاب الرئيس كلينتون الباكي وهو يعتذر للشعب الأمريكي ولزوجته بعد ثبوت تورطه في علاقة غير مشروعة مع مونيكا .
وقد وضع لينسيوني وصفاً للفريقين ؛ القابل للمساءلة والغير قابل ، كالتالي ؛ أولاً ؛ الفريق الذي يتجنب المسائلة ؛ ويتصف ب: (1) يولِّد امتعاضاً بين أعضاءه الذين يملكون مستويات مختلفة من الأداء (2) يُشجِع الأداء السيئ (3) لايلتزم بالمواعيد المحددة والتعهدات الأساسية (4) يُلقي بعبء كبير على قائد الفريق بوصفه المصدر الوحيد لفرض الانضباط . . . ثانياً ؛ الفريق الذي يحاسب نفسه ؛ (1) يولِّد ضغط على الأعضاء ذوي الأداء الضعيف لتحسين أدائهم (2) يتعرف على نقاط الضعف والمشاكل في وقت مبكر ؛ من خلال مساءلة الأعضاء لبعضهم البعض. (3) يفرض احترام الأعضاء الذين يتمتعون بمستويات أداء عالية. (4) يتجنب البيروقراطية المفرطة في مجال إدارة الأداء والممارسات التصحيحية .
ثم اقترح معالجات لعامل الخلل الرابع -تجنب المساءلة- بوضع مبادئ يمكن لأي فريق ترسيخ ثقافة المساءلة من خلال الالتزام ببعض وسائل الإدارة التقليدية ومنها ؛ (1) الإعلان عن الأهداف المطلوب تحقيقها ، وتوزيع المهام ، ووضع الخطة التنفيذية التي يسير عليها الأعضاء (2) المراجعات البسيطة المنتظمة لسير الأعمال ؛ وعبرها يتواصل أعضاء الفريق فيما بينهم -شفوياً وكتابياً- (3). مكافأة ومعاقبة الفريق -المكون- جماعياً فهذا يجعل الجميع شركاء في النجاح والفشل ، وبالتالي لايبقى الأعضاء مكتوفي الأيدي لأن أحد رفاقهم لايريد أن يقوم بواجباته. (4) وجود قائد قادر على ضبط العمل والقيام بموقف الحاكم العادل بين الأعضاء . . . والكفوء والمرحب بمساءلته عن أخطائه .
وختاماً أقول ؛ إن المساءلة بكل طرقها جزء لا يتجزأ من عناصر نجاح أي فريق عمل . . . ولايوجد شعب كانت المساءلة جزء من ثقافته إلَّا بنى حضارة عظيمة . . . أمَّا المكابر المنكر كان فرد أو حزب أو شعب فنهايته الفشل . . . بل لايستطيع الحفاظ على وجوده . الشعوب التي لا تحاسب قادتها على أخطائهم ، وتقبل تزييف الحقائق ، هي شعوب أسلمت عقولها للإستحمار ، والمستحمَرون لايستحقون الحرية . وللحديث بقية .............