تناولنا في المقالين السابقين عاملين من العوامل الخمسة لخلل العمل الجماعي ، هما ؛ انعدام الثقة والانسجام الزائف . . . واليوم نكمل مابدأناه بتناول العامل الثالث "غياب الالتزام" غياب الالتزام يعني ؛ فشل الفريق -المكون- في الالتزام بتطبيق ما اتفق عليه بين أعضاء المكون أو بين المجتمعين ولو كانوا من مكونات عدة . . . وهذه الحالة دائمة الحضور في ساحة النضال الجنوبي . مثال "انعدام الالتزام بين المكونات" قبل أيام لم تلتزم القيادات التي اجتمعت في بيت الدكتور مسدوس على ما اتفقوا عليه بخصوص مهرجان 27 أبريل بمافي ذلك عمل اللجنة التحضيرية للمهرجان...! ومثال "انعدام الالتزام داخل التنظيم الواحد" فريق محمد علي أحمد مؤتمر شعب الجنوب ؛ انقسم الفريق في اللحظة الفاصلة من خطتهم . . . البعض انسحب من مؤتمر الحوار الوطني ، والبعض الآخر رفض الانسحاب ؛ مخالفين الخطة (المشاركة في الحوار وانتزاع فدرالية اقليمين أو الانسحاب بعد أن يعطوا القضية الجنوبية دفعة علاقات عامة) ومثال أخير "انعدام الالتزام الفردي" أو لنسميه المزاجية الفردية ؛ وهو مشاركة بعض أعضاء اللجنة التحضيرية -رؤساء دوائر- للمؤتمر الجامع في لقاء مع قيادات المجلس الأعلى التابع للبيض - الذي اعلن سابقاً رفضه للمؤتمر الجامع- والاتفاق معهم على مؤتمر وطني آخر ليس المؤتمر الجامع...! كانت هذه أمثلة فقط وهي غيضٌ من فيض . والسؤال إذا كانوا لا يلتزمون بما يتفقون عليه فلماذا يجتمعون...؟ البعض يُسمِّي هذه الحالة طفولة سياسية واستحمار للجماهير...!
نعود إلى عامل "غياب الالتزام ؛ إن التزام الجميع بخطط الفريق أو المكون شيء لابد منه لتحقيق النجاح . . . والالتزام ليس مقصوراً على من وضع الخطة ومن أيدها فقط...؟ بل حتى الذين عارضوها أثناء طرحها للنقاش . . . الجميع مُلزم بها . . . والجميع مُلزم بإلزام كل من هم تحت قيادتهم على تنفيذها . . . الالتزام بالتنفيذ ليس رغبة شخصية أو فهم شخصي ، الالتزام واجب على كل فرد . ولو عاد القارئ إلى المقال السابق -الانسجام الزائف- سيجدنا وضعنا تعريفاً للاختلاف البنَّاء والاختلاف الغير بنَّاء . . . الاختلاف البنَّاء ؛ هو الذي يثري اللقاء بالنقاش والبحث والتمحيص في بنود الاجتماع ، نقاش شديد وانتقادات واضحة للأفكار بلامجاملة ولاتنازلات . . . وبعدها يتم الاتفاق على نقاط محددة ينفذها الجميع حتى المعترضون عليها . هنا تكمن أهمية الانسجام الحقيقي وخطورة الانسجام الزائف . أهمية الاختلاف تكمن فيما بعده "الالتزام بالتنفيذ" فعندما لايُفصح الناس عن افكارهم ويشعرون أن هناك من يسمعهم فلن يستمروا فيما بعد النقاش وهو الالتزام بالتنفيذ . . . ليس خللاً ان يختلف اعضاء الفريق اثناء النقاش ، لكنَّ الخلل هو الخوف من الخلاف في مرحلة النقاش ؛ وهذا الخلل ينتج عنه خلل أكبر وهو عدم الالتزام بالتنفيذ .
مثال التزام الجميع بالتنفيذ حتى المعارضون ؛ في حرب العاشر من رمضان المجيدة 1973 حدث خلاف حاد في يوم 14 أكتوبر ؛ بين الرئيس السادات ومعه وزير الحربية أحمد إسماعيل ورئيس العمليات الجمسي من طرف . . . ومن الطرف الآخر رئيس أركان الجيش المصري الفريق الشاذلي ومعه قائدي الجيشين ، الجيش الثاني -سعد مأمون- والجيش الثالث عبدالمنعم واصل . . . كان الفريق الأول السادات ومن معه ؛ يصرون على تطوير الهجوم إلى المضايق ، بينما الفريق الثاني الشاذلي ومن معه يرفضون ذلك ؛ معتبرين تطوير الهجوم مغامرة فاشلة ، تنتهي بتدمير القوات المهاجمة وهي الفرقة 21 والفرقة4 ، كما أن سحب الفرقتين من مؤخرة الجيشين سيفتح ثغرة لقوات العدو يمكنه اختراقها وضرب مؤخرة الجيشين ومحاصرتها (وهذا حدث فعلاً) . . . اشتد الخلاف واستمر النقاش يومين كاملين . . . حينها حسم السادات الخلاف وقال "هذا أمر"
يقول الفريق الشاذلي : حينها لم يكن أمامنا إلَّا التنفيذ ، ووضعنا كل قدراتنا في خدمة تنفيذ خطة التطوير والاستماتة كي تنجح ونحن نعلم فشلها ، أو الخروج بأقل الخسائر . . . ويقول ؛ مهما تكن قناعتنا الشخصية فلابد من الالتزام بالتنفيذ والحرص على النجاح ولو كان النجاح يديننا كونه عكس رؤيتنا . انتهى المثال ،،،،،،،،
وتكمن أهمية النقاش الجاد والانتقاد الواضح في كونها تجعل الخطة واضحة والقرار واضح للجميع -المؤيد والمعارض- لامجال لتأويل القرارات أثناء التنفيذ . وهذا التأويل هو الذي وقعت فيه القيادة المصرية في حرب رمضان 1973 ؛ حيث كانت الخطة النهائية للحرب -بدر- تقتضي الهجوم على مرحلتين ، الأولى ؛ العبور حتى عمق 12 كيلو في سيناء -مدى مضلة صواريخ الدفاع الجوي- . . . ثم وقفة تعبوية . . . ثم تطوير الهجوم إلى المضايق . . . فكانت المرحلة الأولى من الهجوم -إلى عمق 12 كيلو- واضحة ؛ وكانت المرحلة الثانية -تطوير الهجوم إلى المضايق- واضحة . . . لكن الوقفة التعبوية لم تكن واضحة ....؟ حيث فسرها الفريق الأول -السادات ومن معه- بساعات أو أيام كما جاء في مذكرات الجمسي . . . بينما فسرها الفريق الثاني (حتى نستعد لتطوير الهجوم كما استعدينا للعبور) قد تكون ساعات أو أسابيع أو شهور ؛ كان الشاذلي يرى أن الوقفة التعبوية جزء من استراتيجية المعركة (انهاك اسرائيل بحرب طويلة لأنها لاتقدر عليها ولا تستطيع تحمل خسائرها) هنا تكمن خطورة انعدام الوضوح في القرار .
والنقاش الجاد يخلق اقتناع الجميع ؛ ليس الاقتناع بصحة الخطة ، بل الاقتناع بأن الجميع سيتفانى في عملية التنفيذ . . . فالالتزام في التنفيذ يعتمد على عاملين هما ؛ وضوح القرار والخطة ، والاقتناع بأن الجميع سيقدم كلما لديه في عملية التنفيذ .
إنِّ الفرق العظيمة تدرك إيجابية القاعدة العسكرية التي تقول [إن اتخاذ قرار ولو كان خاطئاً أفضل من عدم اتخاذ قرار على الاطلاق] . . . وتدرك أفضلية اتخاذ قرار جريء ولو كان خاطئاً ، لأنَّ تغييره سيكون بنفس القدر من الجرأة ، فهذا القرار الجريء أفضل من الاستسلام للأمر الواقع . . . لايمكن تأجيل القرارات الهامة حتى يتم الحصول على كل المعلومات والبيانات التي تخلق حالة الاطمئنان الكامل بصواب القرار ؛ هذا يجمد المكون ويشل حركته ، ويُفقِد أعضائه الثقة بالنفس .
وقد وضع باتريك لينسيوني مجموعة من السمات التي يتصف بها الفريق العاجز عن الالتزام والفريق الذي يحقق الالتزام ومنها ؛ أولاً ؛ الفريق العاجز عن الالتزام (1) يخلق التباساً لدى أعضائه بشأن التوجهات والأولويات (2) تضيع عليه الفرص (3) يحفز غياب الثقة والخوف من الفشل (4) يشجع النزعة التشكيكية لدى أعضائه . . . ثانياً الفريق الذي يحقق الالتزام (1) يخلق وضوح التوجهات والأولويات (2) ينمي القدرة على التعلم من الأخطاء (3) يقتنص الفرص (4) يتقدم إلى الإمام دون تردد (5) يُغير الاتجاه دون تردد أو احساس بالذنب .
ووضع كذلك -لينسيوني- معالجات تمكن الفريق من تجاوز حالة غياب الالتزام إلى حالة الالتزام ، نورد منها التالي (1). تدريب الفريق على الالتزام من خلال مواقف وقرارات أقل خطورة (2). تحديد مواعيد نهائية للقرارات وتنفيذها (3). بعد الاتفاق على الخطة أو القرار يقوم الفريق -قبل التنفيذ- بوضع سيناريو ظهور نتائج سلبية ووضع معالجات لها ، وهذه الطريقة تجعل أعضاء الفريق يسيطرون على مخاوفهم ويدركون أنَّهم قادرون على تخطي الأعباء الناتجة عن القرار الغير صحيح (4). اختيار القائد القادر والكفوء ؛ فهو يدرك ماذا يفعل ويحسن ارسال الرسائل التوضيحية ، ولايخاف ويهرب إذا ثبت أن القرار الذي اتخذه الفريق خاطئاً ، ويدفع الفريق نحو الحسم في القضايا ، ويدفعه نحو الالتزام بالتوقيتات .
اعتذر عن طول المقال ؛ فهذا أقل تلخيص لرؤية باتريك لينسيوني للخلل الذي يسببه العنصر الثالث من العوامل الخمسة لخلل العمل الجماعي ومراجع أخرى ومعلومات من الذاكرة . وللحديث بقية ،،،،،،،،