[1] الحديث عن الملابسات التي تصاحب كتابة التاريخ؛ أو شهادة لشخصية كان لها دور تاريخي ما؛ مهم جدا في الحاضر والمستقبل، وفي حالات كثيرة فإن التاريخ القديم يستخدم لتبرير مواقف حاضرة لهذا الطرف أو ذاك! ويجتهد أنصار عقائد سياسية وفكرية في تقديم التاريخ بطريقة تخدم مواقفهم الحاضرة ولإدانة خصومهم ولو بأثر رجعي! وها نحن في يمننا نواجه من يحاول أن يصطنع - ولا نقول يزوّر- أحداثا تاريخية قريبة جدا لتبرير خياراته السياسية الراهنة؛ حتى وصل الأمر إلى الذين ينبشون أحجار التاريخ القديم ليبحثوا لهم عن مستند لدعوى أنهم ليسوا يمنيين!
وتزييف التاريخ هذا يتم بطرق عدة منها: تقديمه بصورة غير صحيحة أو غير دقيقة؛ عن طريق تقديم حادثة ما بطريقة ناقصة لا تلتزم المهنية العلمية، او إغفال جوانب مهمة من الحادثة التاريخية، أو تجاهل أدوار أشخاص شاركوا فيها عن طريق تحجيمها أو عدم ذكر أسمائهم وكأنهم نكرات!
وفي التاريخ المصري القديم اشتهر عن الفرعون رمسيس الثاني شغفه بتزوير التاريخ ونسبة المنجزات لنفسه (بناء المعابد مثلا) إلى درجة تغيير اسم بانيها ووضع اسمه بدلا منه، والظاهرة الرمسيسية هذه ما تزال فارضة نفسها في الذهنية المصرية بقوة، وها هم بعض المصريين يعملون على تزوير أحداث ثورة 25 يناير التي لمّا تكمل الثلاثة أعوام وفقاً لأجندتهم السياسية وخلافاتهم الحزبية! ولعل أشهر بنود هذه اللعبة الآن: إنكار الدور الكبير الذي قام به الإخوان في أحداث الثورة (رغم أنه سبق أن اعترفت شخصيات كبيرة بذلك بعد الإطاحة بحسني مبارك في وقائع مسجلة موثقة!)، ويبدو أن الظاهرة الرمسيسية معدية مثل أنفلونزا الخنازير، فها هو وزير الخارجية الأمريكية (جون كيري) يعلن الأسبوع الماضي شهادته على الطريقة المصرية بأن الإخوان سرقوا ثورة الشباب المصري! ولو تحسنت العلاقات أكثر بين واشنطنوالقاهرة، فسوف يندع (كيري) تصريحا ثانيا بأن الإخوان ملحدون، وتجار دين، ويأكلون مال النبي، ومارسوا التهميش والإقصاء، وخطر على الإسلام المعتدل!
[2] خلال إجازة العيد الماضي؛ أعادت قناة الجزيرة بث حلقات برنامج (شاهد على العصر) الذي كان المتحدث فيها القائد العسكري المصري البارز/ سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب الجيش المصري منذ مايو 1971 حتى نوفمبر 1973 أي كان القائد المباشر لحرب أكتوبر- رمضان.. وما يهمنا في الشهادة هو حديثه عن الهدف الأساسي من الحرب التي شنتها مصر بالاشتراك مع سوريا، وهي شهادة تكشف كيف يمكن أن تضيع حقائق التاريخ، وتزوّر الوقائع في لهيب الخلافات السياسية.
يقرر الفريق الشاذلي في شهادته (وكذلك في كتابه: مذكرات حرب أكتوبر) أن دراسته لإمكانيات الجيش المصري وقت توليه المسؤولية مقارنة بالتفوق الإسرائيلي لم يكن يسمح بالقيام بهجوم واسع النطاق بهدف تدمير قوات العدو، وإرغامه على الانسحاب من سيناء وغزه، وأن قصارى ما كان يمكن فعله إن أحسن التجهيز والتنظيم هو: عملية هجومية محددة بهدف عبور قناة السويس، وتدمير خط بارليف ثم التحول للدفاع، ثم التحضير لمرحلة ثانية للوصول إلى المضايق في حالة توفر أنواع أخرى من الأسلحة وأساليب أخرى من التدريبات.. وأبرز هذه الأسلحة: صواريخ سام المضادة للطائرات التي توفر للقوات المتقدمة حماية من التفوق الجوي الصهيوني.
وقد ترتبت على هذه القناعة عند الشاذلي أشياء عدة؛ منها معارضته أثناء الإعداد للحرب أن تكون الخطة بهدف الوصول إلى المضايق، كما طلب منه رسميا مراعاة للحليف السوري الذي اشترط للمشاركة في الحرب ألا يكون هدف المصريين التوقف بعد الاستيلاء على خط بارليف، وقد ظل الشاذلي مصرا حتى النهاية أنّ تجاوز مجال حماية الصواريخ سيكون جريمة في حق الجيش المصري، وطالب برفض الطلب السوري ولو امتنعوا عن المشاركة في الحرب، لكن الحسابات السياسية للرئيس المصري السابق/ أنور السادات التي قامت على فتح جبهتين عربيتين في وقت واحد أمام الجيش الصهيوني فرضت قرارها في الأخير، وللجمع بين اعتراضات القيادة العسكرية وطلب الحليف السوري تم تقديم خطة أخرى للحرب تهدف للوصول إلى المضايق، واستخدم مصطلحا عسكريا فضفاضا معنى وزمنا: الوقفة التعبوية بين المرحلتين لإقناع السوريين بالمشاركة، وهو الأمر الذي وصفه الشاذلي بأنه.. غدر بالسوريين!
وكما هو معروف فقد نجح الجيش المصري في تحقيق أهداف المرحلة الأولى من الحرب، والسيطرة على الضفة الشرقية للقناة، وتحول إلى وضع دفاعي صار بمثابة مفرمة اللحم بالنسبة للقوات الإسرائيلية التي تكبدت خسائر رهيبة وخاصة في الدبابات والطائرات؛ دفعت جولدا مائير لطلب النجدة من واشنطن ببرقية تقول: أنقذوا إسرائيل! لكن في المقابل كان الجيش السوري يواجه موقفا حرجا للغاية في جبهة الجولان؛ فبعد أن تمكنت القوات السورية في البداية من التقدم السريع في مناطق عديدة؛ ركز الإسرائيليون على دفعهم للوراء بسبب صغر مساحة ساحة القتال وقربها من حدود فلسطين عام 1948 على العكس من جبهة سيناء البعيدة، ويومها طالب السوريون بإلحاح من المصريين مواصلة التقدم لتخفيف الضغط عليهم، وحدث خلاف في القاهرة بين كبار قادة الجيش بقيادة الشاذلي وبين السادات الذي طلب التقدم بالقوات إلى المضايق أو ما اسمي يومها: تطوير الهجوم شرقا للتخفيف على الجيش السوري الذي تراجع عن معظم مكاسبه الحربية بل وأكثر منها في بعض المواقع، وفي الأخير تم تنفيذ الأمر السياسي وحدث ما توقعه العسكريون، وخسر الجيش المصري كميات كبيرة من الدبابات بعد أن خرج عن نطاق حماية الصواريخ، وكانت أخطر النتائج هي استفادة الإسرائيليين مما حدث والبدء في تنفيذ هجوم مضاد اخترقوا فيه الضفة الغربية في منطقة (الدفرسوار) مستفيدين من الدعم الأمريكي الخرافي الذي وصلهم إلى أرض المعركة مباشرة وبأسلحة حديثة جدا، ويومها أيضا وقع خلاف كبير بين الشاذلي والسادات حول مواجهة الاختراق الإسرائيلي. فالقائد العسكري أوصى بسحب ألوية مدرعات من الشرق لمحاصرة الثغرة، والقائد السياسي رفض ذلك لكيلا يبدو الأمر انسحابا كما حدث عامي 1956 و1967.. ومن خلال هذا الخلاف توسع الاختراق الإسرائيلي كثيرا.
ما يهمنا هنا هو ما حدث بعد الحرب؛ فبسبب الخلافات التي حدثت بعد قبول مصر وقف إطلاق النار؛ راج في الصحافة العربية المعادية أن السادات هو الذي كان يرفض التقدم نحو المضايق، وأن الشاذلي هو الذي كان يدعو إلى ذلك، وقد أخذت هذه المسألة حيزا كبيرا من الجدل العنيف المصحوب كالعادة بتهم الخيانة؛ حتى كشف الشاذلي الحقيقة، وكشف معها بالضرورة حقيقة أن التقدم بعد بارليف كان غلطة فادحة سببها الحسابات السياسية ولا علاقة لها بالحسابات العسكرية، ورد بذلك على الذين ما يزالون حتى الآن ينتقدون عدم تقدم الجيش المصري لتحرير المضايق استغلالا للنصر الذي تحقق في البداية، ولحالة الارتباك التي أصابت الإسرائيليين في الأيام الأولى للحرب!
[3] على الطريقة العربية، أو على الطريقة الرمسيسة؛ يلاحظ القارىء أن مذكرات بعض القيادات المصرية تلتزم بمهنية بطريقة الفرعون في تزوير التاريخ، ففي مذكرات السادات (البحث عن الذات) يتجاهل أي دور للفريق الشاذلي في حرب أكتوبر؛ رغم أنه كان المسؤول التنفيذي لها، ولا يذكر اسمه إلا مرة واحدة عندما حمله مسؤولية توسع الاختراق. والشاذلي بدوره في مذكراته يقلل كثيرا من دور وزير الحربية أحمد إسماعيل إلى درجة الإهانة، ولا يكاد يذكر دور أحد من القادة العسكريين معه؛ بمن فيهم محمد الجمسي الذي كان نائبا له ورئيسا لغرفة العمليات العسكرية! وفي أثناء عهد المخلوع حسني مبارك تحول إلى بطل الحرب في الصحافة المصرية على حساب الأخرين، وصارت الضربة الجوية التي افتتحت الحرب هي الأصل ,الفصل، وبالضرورة قائد الطيران الذي خطط وقاد!
وتستمر الظاهرة الرمسيسية؛ ففي مذكرات اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية في مصر (كنت رئيسا لمصر) سرد شهادته عن تاريخ ثورة 23 يوليو وكأنه هو القائد والمخطط الأول، وكل شيء تم وفق أوامره وتوجيهاته، وأيضا لا يكاد يذكر دور شخص بمن فيهم القائد الحقيقي جمال عبد الناصر!
ويمكن فهم موقف الشاذلي ومحمد نجيب في أنهما عانيا من تجاهل ظالم تام بعد إبعادهما من منصبيهما؛ حتى جاء زمن لم يكن أحد يعرف اسم محمد نجيب الذي صدر بيان الثورة باسمه! وظل في الإقامة الجبرية من 1954 حتى وفاة عبد الناصر، وعانى الشاذلي من الإبعاد وحتى السجن، لكن الذين لم يعانوا التجاهل والإهمال لا عذر لهم في تأليف التاريخ وفق التطورات السياسية والعلاقات البينية مع الآخرين!
وفيما يتعلق بثورة يوليو فهناك اتهامات عدة للكاتب المصري الشهير/ محمد حسنين هيكل بالتلاعب ببعض الأحداث عن طريق سردها بروايات متناقضة بما يتوافق مع الحسابات السياسية والخلافات الحزبية. فمثلا كتب هيكل حادثة تاريخية مشهورة بروايتين مختلفتين اختلافا واضحا، ففي صباح ثورة 23 يوليو كلف عبد الناصر أحد الضباط بحكم علاقته الشخصية بالملحق العسكري الأمريكي ليشرح للسفارة الأمريكية بخبر حركة الجيش وأهدافها، وفي كتابين لهيكل تظهر الرواية مختلفة في تحديد اسم الشخص؛ ففي كتابه: قصة السويس ص 68 كان علي صبري ضابط مخابرات الطيران هو المكلف بالاتصال بالسفارة الأمريكية في القاهرة (وهي الرواية الثابتة وأقرها صبري نفسه)، لكن في كتاب: ملفات السويس (الوثائقي!) صار ضابط آخر هو عبد المنعم أمين هو المكلف من عبد الناصر شخصيا بإخطار السفارة الامريكية بنوايا الحركة وأهدافها، والاختيار تم لنفس الأسباب: العلاقات الاجتماعية.. أما الاختلاف فلا تفسير له إلا قانون: رمسيس الثاني!
وفي حادثة أخرى نسب هيكل في كتابه (عبد الناصر والعالم – 1971) إلى اللواء /محمد نجيب؛ حادثة تقديم الأمريكان ثلاثة ملايين دولار للرئاسة المصرية في نوفمبر1954 لاستخدامها كهدية من الرئيس الأمريكي؛ اعتاد تقديمها لرؤساء الدول الصديقة لمساعدتهم في مواجهة الشيوعية خارج نطاق الموازنة؛ ولما كان الأمر غير صحيح فقد رفع محمد نجيب دعوى قضائية ضد هيكل منكرا صحة الرواية من الأساس، وكتب هيكل اعتذارا عن الحكاية كلها وعما فيها من تفاصيل ألّفها مسيئة للرجل الخارج لتوه من كهف الإقامة الجبرية! واتضح أنه لولا هوس تأليف التاريخ وليس كتابته. فقد كان يمكن سرد ما حدث بدون إساءة لأحد لأن فيها نوع من المواقف الجيدة، فالحكاية حدثت بالفعل، والأمريكان قدموا المبلغ للرئيس عبد الناصر (وليس لنجيب الذي كان حينها قد فقد سلطته تماما) الذي استنكر الأمر من الأساس، وأمر باستخدام المبلغ في بناء برج الجزيرة الشهير في قلب القاهرة!