الحياة والموت نقيضان، لا يجتمعان معاً في جسد واحد، فإما أن يكون الإنسان حياً أو ميتاً، ومن هذه الحقيقة يولد سؤال مصيري: من منا يجرؤ على الذهاب بنفسه إلى لحظة اللا رجوع؟ حتى الذين يعشقون المغامرات في جميع جوانب الحياة، يكابرون ويظهرون شجاعة اللا اكتراث البقاء على قيد الحياة، والاقتراب أكثر من الموت، وعندما يصلون حد تلك اللحظة، تجتاحهم رغبة كبرى بالرجوع إلى الحياة؛ والتشبث بها بكل قوة، والإصرار على الاستمرار فيها إلى موعد قدوم لحظة اللا رجوع الإلهية، حينها لا يعلق الخيار بين الحياة أو الموت، وما على الإنسان سوى تسليم حياته طواعيةً لملك الموت. قد تكشف التقارير الطبية عن وجود أمل بشفاء المريض أو حتى تقدم حالته الصحية نحو الأحسن قليلاً، وأمام كثير من الحالات الميئوس من شفائها - تبدو أقرب ما يكون للموت - تصير التقارير الطبية الأخيرة تشبه بعضها حد التطابق، وقراءتها تعيد نفسها، ولا تشير إلا إلى أن لا رجاء من استعادة الحياة؛ فيعجز الطبيب، ولا يجرؤ حتى بعد أن تجاوز رعشة ضميره على مد يده المرتعشة أيضاً لإيقاف الأجهزة الاصطناعية لإطالة حياة المريض، ويبقى الجميع في حالة انتظار القدر؛ ليقول كلمته الفصل، ويأخذ أمانته، ويشطب اسم المريض من كشوف العالقين بين الحياة والموت.
إن من أصعب اللحظات التي يواجهها الطبيب أن يخلص أحد مرضاه من معاناته مع آلامه إلى الأبد - ليس القصد صرف وصفة علاج(دواء) له أو إعطائه حقنة مسكنة للألم – وإنما التخليص في لحظة استدلاله بعلامات لا تمد المريض بصلة للحياة، منذ لم تعد أجهزة التنفس والإنعاش الاصطناعي تفلح إلا في إطالة مظاهر بقائه على قيد الحياة، يظهر ذلك واضحاً على شاشة جانبية تعرض إشارات تترجم الدقات المتباعدة الصادرة عن قلب المريض، الذي يقترب من الموت.
في الذكرى الرابعة عشر للحادثة التي أردته مشلولاً، عاجزاً عن الحركة، بسبب إصابة في عموده الفقري أثناء تأديته أحد عروضه الساحرة، يقرر أعظم ساحر ولاعب خفة في العالم آنذاك السيد/إيثان ماسكارينهاس، الذي قام بدوره الممثل/هيرتيك روشان في الفيلم الهندي Guzaarish(أمنية/رجاء) للمخرج الهندي/سانجاي ليلا بنسهالي إنهاء حياته، وذلك بتقديم طلب التماس لإحدى المحاكم الهندية - رغم كل ذلك الرفض من جميع المحيطين به في قصة كتبها المخرج. بعد 14 عاماً يغادر قصره للمرة الأولى؛ ليضع حداً لحياته، فأعضاء جسده الداخلية في تداعٍ مستمر، وتتدرج تناقصياً بأداء وظائفها الحيوية نحو التوقف تماماً، فالساحر الذي أبهر العالم بألعابه وحيله، كان فيما مضى يستطيع محلقاً إيجاد مسافة بينه والسماء والأرض، وفجأة يجد نفسه طريح الفراش، رأس بلا جسد، ملتصقاً بكل ما يساعده على الحركة، ملامساً للأرض دون رحيل إلى السماء، عدا روحه التي بقيت في صراع مع حياته اليائسة، وتتوق التحليق، وتتمنى الموت قبل اقترابه منها، فإصابته حالت دون تحركه بحرية، وأنهت حياته المهنية، التي شغل بها المعجبين حول العالم، وأثارت ضغائن منافسيه من السحرة.
إن أول دولة في العالم أقرت قانوناً يجيز الموت الرحيم في الحالات المستعصية "هولندا"، وذلك في عام 2001م، فقد شُرع الموت الرحيم بموجب قانون صادر عن مجلس النواب ومجلس الشيوخ مجتمعين، ويتضمن القانون شروطاً قاسية لتطبيقه، أهمها توافق رأي طبيبين على أنه لا أمل في شفاء المريض مع معاناته آلاماً مبرحة وعذاب لا مبرر له، وطلبه مراراً بإنهاء حياته، وضرورة خضوع الأطباء لإشراف لجان إقليمية مؤلفة من قضاة وأطباء، مكلفة بالسهر على احترام الشروط القانونية، والتأكد من توافرها، وتعتبر تلك المرة الأولى في تاريخ البشرية، التي ينظم فيها الموت الرحيم على الأصعدة المدنية والاجتماعية والقانونية، فبعد 30 سنة من الجدل والاستفتاءات والنقاش، صدر أول تقنين في العالم للموت الرحيم، ويعده عملاً مشروعاً وفقاً لشروط دقيقة حددها المشرع، غير أن معارضي القانون اتهموا الحكومة الهولندية بأنها وافقت على القانون، وأصدرته رسمياً؛ لتخفيف مصاريف المعالجة الطبية والأدوية لمواطنيها.
أجمعت الديانات السماوية على اعتبار أن قتل الإنسان أياً كانت حالته الطبية سواءً المريض الميئوس من شفائه أو المسن العاجز عن تأدية أبسط الحركات الحياتية ليس قراراً متاحاً من الناحية الشرعية للطبيب أو لأسرة المريض أو للمريض نفسه، لأن حياة الإنسان أمانة يجب الحفاظ عليها من قبل الجميع، وليس على أو لأحد أن يوصلها إلى لحظة اللا رجوع، باستثناء بعض الفتاوى لعدد من العلماء حول العالم، التي نصت على أنه يجوز رفع أجهزة الإنعاش والتنفس الاصطناعي التي رُكبت على جسد المريض إذا تعطلت نهائياً جميع وظائف قشرة وجذع دماغه، وإن كان القلب والتنفس لا يزالان يعملان آلياً بفعلها، ولا يُحكم بموته شرعاً إلا إذا توقف التنفس والقلب تماماً بعد رفعها ورفع الحياة معها. حول الموت الرحيم تختلط مختلف الأوراق، ويرتبك الجميع نظراً لحساسية الموضوع، ويتصدر المواضيع الخلافية والإشكالية على مستوى منابر ومنتديات العالم، سواءً لشرعيته أو محاولة تبريره أخلاقياً أو دينياً أو قانونياً؛ لأن الحق بالحياة مقدس في كل الأديان، ويقوم على تكريم الإنسان، وقد اتفقت الديانات السماوية على أن الحياة هبة من الخالق، لا يحق لأحد غيره التصرف بها، في مقابل الاعتبارات الإنسانية، التي قد تصل إلى حد اعتبار الموت رحمة وخلاصاً من عذاب لا يُحتمل آلامه.