الخارجية العُمانية تكشف عن إبرام صفقة مع سلطة صنعاء    قراءة تحليلية لنص "سوق الخميس والمجنون" ل"أحمد سيف حاشد"    قراءة تحليلية لنص "سوق الخميس والمجنون" ل"أحمد سيف حاشد"    الكثيري: وجهنا بتأمين المنشآت والمؤسسات وحماية المصالح العامة والخاصة بوادي حضرموت    الضالع ويافع.. فزّاعة المفلسين أمام الحقيقة في حضرموت    الرئيس الزُبيدي يُعزي بوفاة القاضي صالح محسن باشافعي    تقديرات أمريكية بتوجه صيني للسيطرة على تايوان بحلول 2027    الوفد السعودي يؤكد رفضه لما حدث في حضرموت ويطالب بخروج القوات التي دخلت المحافظة    السقاف يرأس اجتماعاً استثنائياً لتنفيذية انتقالي العاصمة عدن ويبارك انتصارات القوات المسلحة الجنوبية    هدوء حذر في وادي حضرموت بعد السيطرة على قيادة المنطقة العسكرية الأولى    اختتام الدورة التدريبية الخاصة بأمناء المخازن وموزعي الادوية في الشركات    الرئيس الزبيدي يوجه بالإفراج الفوري عن الأسرى وتقديم الرعاية الطبية للجرحى في وادي حضرموت    معرض وبازار للمنتجات التراثية للأسر المنتجة في صنعاء    مأرب.. تدشين مشروع توزيع كفالات الأيتام ل561 يتيماً ويتيمة من 10 محافظات    مركز النور للمكفوفين يكرم المتفوقين بمناسبة اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة    صنعاء.. إصدار التعزيزات المالية بنصف مرتب أكتوبر 2025    وزير المالية يلتقي مصنعي وتجار الرخام والجرانيت    لحج .. أبناء القبيطة يعلنون النفير والجهوزية لمواجهة الأعداء    منتخب الجزائر يتعادل مع السودان في كأس العرب    قوات دفاع شبوة تسيطر على معسكر على تخوم محافظة مأرب    "خيرات باجل".. مهرجان زراعي يعزز مكانة المديرية كنموذج إنتاجي واعد    صنعاء.. البنك المركزي يوقف التعامل مع منشأة وشركة صرافة    دراسة حديثة تكشف دور الشتاء في مضاعفة خطر النوبات القلبية    تأخير الهاتف الذكي يقلل المخاطر الصحية لدى المراهقين    فاجعة غزة مستمرة: ارتفاع عدد الشهداء إلى 70,117 ضحية للعدوان    وفاة رئيس اتحاد الأدباء في إب عبد الإله البعداني    قرار حكومي بمنع اصطياد وتسويق السلاحف البحرية لحمايتها من الانقراض    عن الطالبانية الجامعية وفضيحة "حمّام الطواشي"    تجربة تعاونية رائدة في مديرية الشعر بإب.. المغتربون حجر الزاوية فيها    النفط يتراجع وسط ترقب لنتائج محادثات السلام في أوكرانيا    إدارة ترامب توقف رسمياً إجراءات الهجرة والتجنيس للقادمين بعد 2021 من 19 دولة بينها اليمن    عاجل: استشهاد أول أبطال القوات المسلحة الجنوبية في معركة تحرير وادي حضرموت    مباراة الأهداف التسعة.. مانشستر سيتي ينجو من ريمونتادا مجنونة أمام فولهام    قناة آي 24 نيوز: عدن .. أزمة خانقة وشلل اقتصادي وغياب تام للدولة    برشلونة يعاقب أتلتيكو في كامب نو    ندوة ولقاء نسائي في زبيد بذكرى ميلاد الزهراء    إعلان تشكيل لجنة تسيير لشراكة اليمن للأمن البحري بمشاركة دولية واسعة    معجزة غزة.. فيلم لبناني يحصد جائزة في برلين    مواطنون يشكون تضرر الموارد المائية لمناطقهم جراء الأنفاق الحوثية في إب    اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين ينعى الأديب عبدالإله البعداني    صنعاء.. إيقاف التعامل مع منشأة وشركة صرافة    الذهب ينخفض مع جني الأرباح والنفط يرتفع بفعل الأخطار الجيوسياسية    كأس العرب.. فوز تاريخي لمنتخب فلسطين على قطر    الأرصاد: صقيع متوقع على أجزاء من المرتفعات    كلية المجتمع في ذمار تنظم فعالية بذكرى ميلاد الزهراء    برشلونة يقترب من ضم موهبة مصرية لتعزيز الهجوم    هيئة الأوقاف في البيضاء تعيد تأهيل مقبرتي الخرقاء الشرقية والغربية    حقول النفط في حضرموت: معاناة الأهالي مقابل ثراء فئة قليلة    جاهزية صحية قصوى في وادي حضرموت وسط مخاوف من تطورات وشيكة    لملس و الحريزي يفتتحان مشروع إعادة تأهيل شارع معارض السيارات في الشيخ عثمان    الإمارات في عيدها 54.. اتحاد راسخ ورؤية تنموية رائدة    الهيئة النسائية في تعز تدشن فعاليات إحياء ذكرى ميلاد الزهراء    المغرب يستهل كأس العرب بمواجهة غامضة واختبار صعب للكويت والسعودية    الليغا ... ريال مدريد يستمر في السقوط    إب.. تحذيرات من انتشار الأوبئة جراء طفح مياه الصرف الصحي وسط الأحياء السكنية    رسائل إلى المجتمع    تقرير أممي: معدل وفيات الكوليرا في اليمن ثالث أعلى مستوى عالميًا    في وداع مهندس التدبّر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة تحليلية لنص "سوق الخميس والمجنون" ل"أحمد سيف حاشد"
نشر في يمنات يوم 04 - 12 - 2025

تم إعداد هذه القراءة التحليلية لنص "سوق الخميس والمجنون" للكاتب و البرلماني اليمني أحمد سيف حاشد، والمنشور في كتابه "فضاء لا يتسع لطائر" بالاعتماد على تقنيات الذكاء الصناعي، بهدف تقديم رؤية متكاملة تعكس أبعاد النص المختلفة وتأثيره الثقافي والاجتماعي.
لغويا وبلاغيا
النص لغوياً هو مزيج بين اللغة اليومية البسيطة والصور الفنية والتعبيرات الانفعالية، مع استخدام تراكيب وسرد ممتد يعكس الذكريات الحية والتجربة الإنسانية.
وبلاغيا هو نص غني بالوصف الحسي، الرمزية، التضاد، والتكرار، ليخلق صورة متحركة وحية للطفولة والسوق، مع تسليط الضوء على التحولات الاجتماعية والنفسية.
سينما
نص" سوق الخميس والمجنون" هو نص سينمائي لأنه غني بالصور الحسية، الحركة، الأصوات، وتباين المشاعر بين البهجة والخوف.
النص يمكن تحويله بسهولة إلى فيلم قصير أو مشهد متسلسل يظهر الحياة اليومية في السوق، الشخصيات المميزة، والصراعات النفسية والاجتماعية.
ويمكن تقسيمه سينمائيا، إلى خمسة جوانب: الأول هو المشهد الافتتاحي – الطفولة والسوق، والثاني هو تفاصيل الشخصيات – الباعة والمقهى، والثالث: لقطات متوسطة لقرب الباعة، مثل "رُكيز" وهو يعد القهوة، و"حميد" وهو يبيع الليم الحامض، مع صوت مميز لكل شخصية لتأكيد شخصيتها المميزة في السوق.
والثالث يتمثل في مشاهد التوتر – المجنون "العولقية"، اما الرابع يتضمن العراك والمواجهة، والخامس هو الختام – الزمن الماضي والحنين.
البعد المنطقي
النص يعكس الذاكرة الحية للطفولة، الجانب الاجتماعي للسوق، وتأثير الشخصيات والأحداث على تكوين تجربة الفرد.
يقدم النص درسًا منطقيًا: البيئة والمجتمع يؤثران على الإنسان، والبراءة والطيبة يمكن أن تتغير بتغير القيم الاجتماعية والدينية.
فلسفيا
النص يطرح تأملات في الوجود الإنساني والحرية والآخر، ويركز على تجربة الطفولة كزمان للبراءة والفهم المبسط للحياة، في مواجهة الواقع الاجتماعي المتغير الذي يفرض قيودًا على الحرية والقيم الإنسانية.
سيكولوجيا
نص «سوق الخميس والمجنون» يكشف عن طفولة تتشكل بين الفرح والتهديد، وذاكرة مشحونة بالألوان والأصوات والقلق، وشخصية هامشية (العولقية) تتحول إلى رمز نفسي للخوف البدائي، وعراك يشكّل لحظة تحوّل في وعي الطفل بذاته، ومجتمع يتعامل مع المرض النفسي كشيء غامض
وحاشد في نصه "سوق الخميس والمجنون" يكتب ليشفى من حنين موجع وواقع قاسٍ
إنه نص نفسي بامتياز، يلتقط أعماق الطفولة ومخاوفها، ويجعل من شخصية "المجنون" مرآة للقلق والخوف والتحوّل.
نوستالجيا
حاشد يستخدم في النص نوستالجيا الطفولة للهرب من: ألم الواقع، صدمة الحرب، الفوضى، العالم المتغيّر
والطفولة هنا تُستخدم كحائط حماية، مساحة نفسية آمنة، ملاذ من الخسارات الكبرى.
شخصية الكاتب
شخصية أحمد سيف حاشد في النص تمثل طفلاً حنونًا وواعياً نفسيًا، يحمل حساسية عالية تجاه العدوان والظلم، ويبحث عن الأمان والفرح في عالمه الاجتماعي المبكر.
في مرحلة الكبار، تتطور هذه الحساسية لتصبح وعيًا اجتماعيًا ونقدًا للظلم والتحولات الثقافية، مع ميل للتأمل في الذات والمجتمع والبحث عن معنى العدالة والبراءة.
البعد التاريخي
يظهر البعد التاريخي في نص أحمد سيف حاشد "سوق الخميس والمجنون" من خلال الإشارة إلى الماضي القريب والطفولة.
يصف حاشد أيام طفولته في سوق الخميس قبل وصول التشدد الديني، ما يعكس حقبة زمنية محددة قبل ثمانينات القرن الماضي حيث كانت الحياة اليومية أكثر حرية وبراءة.
يوثق النص تاريخيا التحولات الاجتماعية والسياسية في اليمن، وتأثير الأفكار السلفية المتشددة والوهابية التي دخلت إلى المجتمع اليمني بداية التسعينات، ما يعكس تغييرات تاريخية واقعية على المجتمع المحلي وحياة الناس اليومية، خصوصًا النساء.
يشير النص إلى الحرب والدمار الحديث: سبع سنوات من الحرب والدمار، ما يضع النص في سياق تاريخي وسياسي حديث، يوضح أثر النزاعات المسلحة على المجتمع اليمني وعلى فقدان الطيبة والحرية السابقة.
باختصار؛ النص يمثل سجلًا شخصيًا تاريخيًا يربط بين الماضي الطفولي البريء والحاضر الممزق بالحرب والتغير الاجتماعي.
البعد الجغرافي
يتجلى البعد الجغرافي في النص من خلال إبراز النص للتضاريس والمسافات التي يقطعها الناس للوصول إلى السوق، مما يعطي انطباعًا عن جغرافيا المنطقة وعلاقاتها بالمجتمع المحيط، والأماكن داخل السوق نفسها، مثل مقهى "دولة" ومقهى "ركيز"، والمناطق المزدحمة بالباعة والمشتريين، تُظهر توزيع الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية في الفضاء الجغرافي للسوق.
كما يبرز النص تأثير المكان على العلاقات الإنسانية، فالفضاء المفتوح للسوق يسمح بالمقابلة والتفاعل، لكنه أيضًا مكان للاضطراب والخوف أحيانًا (مثل ظهور المجنون "العولقية").
انثروبولوجيا
نص سوق الخميس والمجنون يمثل مسرحاً اجتماعياً يختبر فيه الأطفال والبالغون حدود ذواتهم، ويصف المؤسسة الاجتماعية التقليدية التي تصنع المعنى والانتماء.
يعد النص رمزاً لزمن كانت فيه العلاقات أكثر بساطة ودفئاً، وفضاءً تكشف من خلاله الهوية اليمنية الريفية قبل تشوهات الحرب والتشدد.
يمثل المجنون في النص الهامش المجتمعي الذي يكشف قواعد المجتمع من خلال خرقها، والمرأة تعكس صراعاً قيمياً بين الماضي المتسامح والحاضر المتشدد.
والطفولة هنا تُستعاد كذاكرة جمعية لمرحلة نقية قُطعت بمرور الزمن والحروب.
منظور البنيوي
النص يعمل كبنية متعددة المستويات تتقاطع فيها ثنائية الماضي/الحاضر، وثنائية البراءة/التشدد، وثنائية السوق/الخراب، ثنائية الهامش/المركز (العولقية/المجتمع)، ثنائية الطفل/السلطة.
ومن خلال هذه الثنائيات، يرسم النص صورة مجتمع يمني قديم متماسك تحوّل إلى مجتمع متشظٍ وعنيف.
والسوق في النص يشكّل محور البنية، فهو مركز الحياة في الطفولة، ورمز السقوط في الحاضر.
سيميائية
النص ليس مجرد حنين إلى الطفولة، بل هو شبكة علامات تُظهر السوق علامة الحياة، المجنون علامة التوتر المكبوت، المرأة القديمة علامة الحرية، الأب والسلطة علامة النظام، الحرب والتشدد علامة الموت والتحلل الثقافي.
يستخدم النص العلامات ليقول إن التحول القيمي في المجتمع اليمني ليس مجرد تغيير عابر، بل انتقال وجودي من عالم كامل إلى عالم محطم.
فلكلور
ينتمي نص «سوق الخميس والمجنون» إلى السرد الذي يستدعي الموروث الشعبي اليمني بكل تفاصيله: السوق الطقسي، الشخصيات النمطية، الطفل الذي يختبر العالم، المجنون كرمز فلكلوري، ذاكرة القرية قبل تحولات العقود الأخيرة.
ويقدّم أحمد سيف حاشد حكاية تُقرأ بعمق فلكلوري، لأنها تعيد تشكيل صورة المجتمع اليمني في أحد أكثر فضاءاته الشعبية حيوية: سوق الخميس.
إنه نص عن المكان كهوية، والذاكرة كتراث، والطفولة كمنبع للحكاية.
باراسيكولوجيا
نص «سوق الخميس والمجنون» ليس حكاية طفولة فقط، بل هو نص عن: الموجات النفسية العميقة، التفاعلات غير المرئية بين البشر، الطاقة الجمعية للسوق، الغموض الذي يحيط بالشخصيات الهامشية، التحولات الطاقية الكبرى في المجتمع.
وكيف تتشكل هوية الطفل داخل فضاء مشحون بالحياة والغرابة والخوف والجمال.
إنه نص يقرأ "الطاقة" أكثر مما يقرأ "الأحداث".
سوسيولوجيا
نص "سوق الخميس والمجنون" ليس مجرد ذكريات طفولة، بل وثيقة اجتماعية عن عالم ريفي آمن ومتجانس قبل التحولات الجذرية، وتحليل ضمني لتفكك البنية الاجتماعية تحت تأثير الحرب والتشدّد، وإضاءة على دور السوق كفضاء لصناعة الهوية والذاكرة، وكشف لموقع الفرد (الطفل/المجنون) داخل النظام الاجتماعي.
هو نقد عميق للتحوّل القيمي الذي أصاب العلاقات بين الرجال والنساء، وتسجيل لاحتضار "الألفة الاجتماعية" التي كانت تضبط السلوك دون قوانين.
النص يُقرأ كسيرة ذاتية اجتماعية، وكمرآة لليمن التي كانت... واليمن التي صارت.
البعد السياسي
البعد السياسي في النص يظهر عبر الحرية والبراءة المهدورة نتيجة التدخلات الدينية والسياسية، والسوق كفضاء سياسي واجتماعي مصغر يعكس التنظيم الاجتماعي والتفاوض على السلطة، والحرب والدمار كخلفية سياسية مؤثرة على المجتمع، فضلا عن النقد العميق للتشدد الديني والسياسي وتأثيره على الأفراد، خصوصًا الأطفال والنساء.
نص "سوق الخميس والمجنون"
أحمد سيف حاشد
في مرحلة ما في سن الطفولة، كنا ننتظر يوم الخميس بفارغ الصبر، ولو طلبت الأقدار منّا التمنّي بما نرغب ونشتهي، لطلبنا منها أن تجعل كل أيامنا خميساً لا ينقطع ولا ينتهي.
كان يغمرنا الفرح حالما نرتاد سوق الخميس.. ننتظره بشوق ولهفة.. كان هذا السوق بالنسبة لنا نحن الأطفال أشبه ببازار أو كرنفال بهيج.. الخميس يوم زاه ومميز في أيام الأسبوع.. لولا هذا اليوم لاختلطت أيامنا حابلها بنابلها.. كانت أيام الخميس تيجان أيامنا، وفواصلها البهيجة.. أيامنا القادمات، والذاهبات ليس لها معنى بدون يوم الخميس.. يوم الخميس فسحتنا الجميلة التي نرى فيها ما لا نراه ولا نسمعه في الأيام الأخريات.
كان الهدير والصخب يميَّزان هذا المكان وهذا اليوم البهيج.. إنه المكان الذي يجتمع فيه الناس.. يتقاطرون عليه من كل حدب وصوب.. يقطعون المسافات البعيدة، ويتجشمون مشقة التضاريس، ويتحدّون حدود التشطير، ويلتقون في سوق الخميس.. يسلِّمون على بعض بلهفة واشتياق، ويتحدثون إلى بعضهم بحفاوة وحرارة.
يكتظ مركز السوق برواده، وتمتد أطرافه.. يموج بالبشر والسلع.. بيعاً وشراء وحياة تدب فيه دبيباً.. تسمع هدير وهمهمات السوق قبل أن تراه أو تصل إليه.. صخب وجلبة وحياة ونشاط دؤوب.. يبتاعون ويشترون .. يتحدثون ويقهقهون.
بعضهم يتناول فطور الصباح، وبعضهم يحتسي الشاي والقهوة، وبعضهم يتناول وجبة الغداء في عز النهار.. هناك مقهى ل "دولة" وهي امرأة بيضاء فارعة الطول، مليحة الوجه وزاد الوشم فيه جمالاً وتأنقاً.. ولم تكن جائحة التشدد والتزمُّت بعد قد وصلت إلي قرانا، ولم يكن يومها الخمار يُضرب على وجوه النساء، وكانت العفّة والبراءة والطيبة هي التي تسود دون خدش حياء أو تعرّض لتحرش، أو وجود ما يفسد البراءة والحياة.
في سوق الخميس كان هناك مقهى ل"رُكيز" الرجل المبتسم الطيب، الذي تشعر وأنت تراه بالألفة والرّضى والارتياح. كان ما تصنع يداه من الطعام مُشتهى، وقهوته تحسّن الكيف وتعدّل المزاج.. وهناك حميد أنعم الرجل الفقير والطيب، يبيع الماء البارد والليم الحامض ؛ ويعلن بصوته الرخيم "البانهيس.. البانهيس".
كثيرون في السوق يعلنون ويروّجون لسلعهم، وأحياناً يعتلي "المطرِّب" مكاناً مرتفعاً من السوق، وتسمع إعلانات للموالد والمناسبات أو ما يهم الناس من شأن عام.. جميع هؤلاء الناس الطيبين رحلوا، واليوم وجدنا أنفسنا ضحايا ومنكوبين وممزقين وأشتات، بعد سبع سنوات حرب لعينة.. سبع سنوات في حضرة الخراب والدمار والدماء، وسط الأوغاد واللصوص والمجرمين والفاسدين.. يا إلهي كم كانت تلك الأيام جميلة، وكم كان ناسها طيبين..!
* * *
كانت أيام الخميس بالنسبة للأطفال الذين يرتادون السوق أعياداً بهيجة.. ولكن أحدها بالنسبة لي كان يوم غضب وعراك.. كان المجنون علي عبدالله نائف، ويُدعى ب "العولقية" مشهوراً لدى الاطفال.. كانت تداهمه نوبة توتر وتشنج عصبي.. حركة انفعال تهب فيه فجأة، وفيها بعض من عدوانية، وافراغ شحنة من التوتر والغضب، يُصاحبها اطلاق كلمات شاتمة وألفاظ سباب، ويستحضر فيها اسم "العولقية".
الحقيقة لا أدري ما سر هذه "العولقية" في حياة هذا "المجنون"!! وما علاقته بها ليتم تسميته باسمها!! "العولقية" هي اللغز المغلق في حياة هذا الرجل المُبتلى بحالة نفسية وعصبية وضرب من ال "جنون".
تذكرتُ هذا، وأنا أقرأ قصة نجيب محفوظ "همس الجنون"، والذي كتبها في ثلاثينيات القرن الماضي، متقمصاً الحالة، وفيها يحاول الإجابة على سؤال ما هو الجنون؟! كتب في مستهلها: "إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة وكالموت، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج، أما الباطن، والجوهر، فسّرٌ مغلق".
كان "المجنون" "عولقية" يشكل هاجساً فيه بعض من قلق وخوف للأطفال في السوق.. كان بعضهم يذعرون منه عندّما يشاهدونه.. وكان أحياناً يهاجمهم ويلاحقهم، دون سبب، لاسيما إذا انتابته الحالة، فيهجم ويضرب بيده من يجده أمامه من الأطفال، ويواصل سيره دون أن يعير بالاً لأحد.
وفي بعض الأحيان كان يراجم بالحجارة، ويقوم بحركات متعدية، تجلب الفزع والخوف للأطفال، وأحياناً يعترضه الكبار، ويصرخون في وجهه: "بلا جنان فجّعت الجهال" لا أدري في الحقيقة لماذا يفعل هذا؟! لماذا يتجه هذا "الجنون" نحو الأطفال؟! هل ألحق الأطفال به يوماً اعتداءً أو أذىً أو استفزازاً مثيراً؟!! الحقيقة لا أدري!
* * *
ومع هذا "المجنون" كان لي قصة.. لا أدري كم كان عمري يومها عندما تفاجأت وهو يشق الزحام في السوق، ويسكع رأسي من قفاي بضربة قوية.. لا أدري كيف ركبتني نوبة غضب وانفعال "مجنون".. اعتركت معه، وكان المجنون يطلب من الناس التدخل لفض العراك ويسألهم: ابن من هذا المجنون؟!! فيما كان الأطفال يحيطون بنا، ويتابعون ما يحدث!!
بدأ "العولقية" يسأل عن والدي، وعندما دلُّوه عليه، وكان معروفاً في السوق، شكا بي إليه وقال له:
– معك ابن مجنون.. شوف ابنك أيش فعل بي!.
كان المجنون يعرض على والدي قميصه المقطوع، وآثار الأظافر والخربشة على يديه وبعضاً من أجزاء جسده!.. غير أن الأطفال الموجودين، ومنهم ياسين عبد الوهاب أنجدوني بشهادة لصالحي لم يكن أبي مضطراً لسماعها، ولكنها وأمام الناس قطعت تسرع والدي بعد أن شهدوا أن "العولقية" هو من بدأ بلطمي في قفا رأسي، وبتلك الشهادة، نجوت من عقاب قاس كان ينتظرني من والدي المعهود بالشدة والصرامة، ودوماً ما يشملُ أحكامه بالنفاذ المعجل. ومن يومها قيل إن "عولقية" كف عن العدوانية حيال الأطفال..
رحل "العولقية" قبل سنوات قليلة، وقيل إنه تعافي من حالته النفسية قبل أن يموت.. ولكن لم تمهله أمراضه الأخرى كثيراً من الوقت.. لم أره منذ وقت بعيد.. رحل عن الحياة بهدوء.. رحمة ربنا تغشاه.
* * *
وعلى ذكر "دولة" المرأة الأنيقة والجميلة التي أشرنا إليها سابقا، وحال المرأة والعيب في ذلك الزمان أشير إلى أن البراءة في تلك الأيام كانت غامرة، وحرية المرأة أكبر، وكانت المرأة يمكن أن تذهب إلى السوق وربما بإمكانها أن تبيع وتشتري، والسواد على النساء كنا لا نراه إلا بثوب "الثبيت" الجميل قبل أن تفتك بنا "الوهابية"، والأفكار السلفية المتشددة التي جاءت من خارج اليمن في مستهل الثمانينيات.
مازلت أذكر كلمات عمّتي "سنبلة" أم عبده فريد مع أحد مسوِّقي التشدد والتزمُّت في قرانا في تلك الأيام، حالما كان يحاول أن يسلّم عليها بطرف أصابعه، وهو يلفها بخرقة القماش التي كان طرفاها مسدولين على جانب يديه ومدورة على عنقه من الخلف.
قالت له:
– إلى أمس يا ابني وأنت تبول فوقي.. كنت "أبوّلك" و"أخرّيك" واليوم لا تريد أن تسلِّم عليّ إلا بالمشدّة.. أني مثل أمك.. من أين أتيتم بهذا الدين؟!!
لقد كان احتجاجاً قاسياً على هذا الجحود، والتصرف السطحي الذي أبداه هذا الصغير على مرأة بسن ومقام أمه. ولكن كان هذا الجحود يتم باسم الدين، وقد اغتالوا البراءة والطيبة التي كانت بين الناس تسود رجالاً ونساءً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.