تقدّم هذه القراءات لنص «هروب وعودة!» للكاتب والبرلماني اليمني أحمد سيف حاشد، والمنشور في كتابه "فضاء لا يتسع لطائر" باستخدام الذكاء الصناعي لتحليل البنى السردية واستخلاص الدلالات الرمزية والاجتماعية والنفسية، بما يتيح رؤية متعددة الأبعاد لتجربة النص وشخصية الكاتب. قراءة أنثروبولوجية للنص نسعى من هذه القراءة إلى تحليل نص أحمد سيف حاشد «هروب وعودة!» بوصفه مادة أنثروبولوجية تكشف البنى الثقافية والاجتماعية في المجتمع اليمني الريفي. تُظهر السردية الذاتية كيف تتفاعل الجغرافيا مع السلطة العائلية، وكيف تعمل أنظمة القرابة، وصور الفحولة، والتوسط الاجتماعي، في إعادة إنتاج العلاقات داخل مجتمع موشح بالجبال والحدود والدلالات الرمزية. مقدمة لا يُقرأ نص «هروب وعودة!» بوصفه تجربة فردية فحسب، بل كوثيقة دالّة على السياق الاجتماعي – الثقافي الذي أنتجها. فالكاتب يشير إلى طفولته وهروبه نحو الجبال والحدود الجنوبية في صورة تبدو شخصية، لكنها تكشف عن شبكة من الرموز والانفعالات والصراعات التي تُعدّ نموذجية للمجتمع الجبلي اليمني في مرحلة ما قبل توسّع الدولة الحديثة. الجغرافيا بوصفها بنية ثقافية الجبل كفاعل اجتماعي يعرض النص الجبل ليس كفضاء جغرافي، بل كفاعل له دور في تشكيل السلوك والوعي. تتبدى الجبال في النص باعتبارها: ملاذاً للخوف والنجاة، حداً فاصلاً بين نظامين، وعاءً للهوية الريفية. الوعورة الجبلية تحوّلت تاريخياً إلى عنصر يعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والمجتمع، ويُعيد إنتاج قيم مثل: الاستقلال، الصلابة، الرفض، العزلة. الجبل هنا يؤدي وظيفة «الحماية الرمزية» التي لم تستطع الأسرة أو الدولة تحقيقها. رمزية الدولة البديلة محاولة الطفل الهرب نحو «جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية» تكشف البعد الأنثروبولوجي للحدود بوصفها: مساحة سياسية، ورمزاً ثقافياً للنجاة، وخطاً يرمز إلى إمكانية عدالة مختلفة. هذا الوعي لدى طفل يعكس إدراكاً مبكراً بأن الدولة القريبة قد تقدّم حماية أكبر من الأسرة المحلية، وهو عنصر ذو دلالة أنثروبولوجية على ضعف الدولة داخل الريف مقابل قوة القرابة. السلطة الأبوية وبنية العنف المشروع الأب كتمثيل للسلطة العليا تجسّد شخصية الأب نموذج «السلطة المطلقة» التي لا يقيّدها قانون، بل تُمارس وفق أعراف محلية: احتكار العقاب، مشروعية الغضب، قرن السلطة بالهيبة، استخدام السلاح كامتداد للسلطة المعنوية. والطفل لا يواجه أباً فحسب، بل يواجه نظاماً اجتماعياً متكاملاً يقوم على الطاعة والخضوع. السلاح كرمز ثقافي ظهور البندقية بصورة متكررة يعكس وظيفتها السيميائية في الثقافة اليمنية: البندقية رمز للشرف ووسيلة تأكيد للفحولة، وشرعية لاستخدام القوة، وعلامة انتماء لنسق قبلي قديم. وظيفة السلاح في النص متجاوزة للاستخدام؛ إنها بنية رمزية تحدد علاقة السلطة بين الأب والطفل. مؤسسات القرابة ودورها الاجتماعي مؤسسة عدالة تقليدية بيت الجد، بخلاف بيت الأب، يؤدي وظيفة: الاحتضان، التهدئة، الشرعية الأخلاقية، الحماية من السلطة الغاضبة. يتقمص الجد في المخيال الجمعي اليمني دور "الحَكم الأخلاقي"، لا "الحاكم السلطوي"، ولذلك يلجأ إليه الطفل بوصفه السلطة الأكثر رحمة. سلطة نسوية غير رسمية تمثل الخالة مريم نموذجاً للمرأة الريفية التي تمتلك: قوة القرار، سلطة التفاوض، القدرة على كسر سطوة الأب مؤقتاً، مكانة اجتماعية قائمة على الحكمة والمعرفة الشعبية. الحضور النسوي في النص يكشف عن دور خفي ولكنه محوري للنساء في ضبط العلاقات العائلية، بما يعاكس صورة "المرأة التابعة" في الخطابات النمطية. الطفل بين الخوف والوعي الاجتماعي الهروب كآلية دفاع ثقافية هروب الطفل يتجاوز رد الفعل الغريزي إلى كونه: أداة لحماية الذات، تعبيراً عن رفض النظام الأبوي، بحثاً عن نظام بديل يوفر العدالة. وهنا يتجلى إدراك أنثروبولوجي مبكر للصراع بين «السلطة التقليدية» و«سلطة الدولة»، حتى وإن كان التعبير عنه طفولياً. المبالغة كجزء من الخيال الاجتماعي تضخيم الطفل لشعوره بالخطر يكشف بيئةٍ يستطيع فيها الأب – واقعياً – استخدام العنف. وبالتالي فإن خوف الطفل ليس وهماً، بل ناتجاً من ثقافة تسمح بممارسة العقاب دون رقابة. الوساطة الاجتماعية وآليات ضبط العنف التفاوض عبر الوسطاء عودة الطفل تمت عبر: نساء القرابة، رجال "السبيل"، ضغط اجتماعي جمعي، تعهدات ملزمة للأب. هذه آلية أنثروبولوجية معروفة في المجتمعات القبلية، حيث يتم ضبط العنف عبر: الشهادة الجماعية، التعهّد الشفهي، المسؤولية الأخلاقية أمام الجمهور السوق كمسرح اجتماعي انفجار غضب الأب في «سوق الخميس» يكشف وظيفة السوق كمكان مراقبة اجتماعية، ففي الفضاء العام تصبح هيبة الفرد ومكانته مطروحة للتقييم، مما قد يدفعه لرد فعل أعنف لاستعادة سلطته. البعد السياسي – الاجتماعي توسع حاشد في نهاية النص لربط طفولته بوضع اليمن الراهن يعكس: انهيار مفهوم الدولة، تغوّل السلطة غير الرسمية، تشظي الهوية بين شمال وجنوب، غياب الأمان. تتحول التجربة الفردية إلى استعارة لواقع جماعي، حيث يعيش اليمني اليوم وضعاً يشبه وضع الطفل: بين «هروب» من العنف و«عودة» إلى واقع لا يقدّم حماية. تكثيف يقدّم نص أحمد سيف حاشد «هروب وعودة!» مادة أنثروبولوجية ثرية تضيء البنى الاجتماعية العميقة في المجتمع اليمني الريفي. يتداخل فيه الجغرافي بالاجتماعي، والسياسي بالأسري، والرمزي بالحياتي، ليرسم صورة عن مجتمع يظل فيه الجبل، والقبيلة، والقرابة، والسلاح، والوساطة، مكونات فاعلة في تشكيل السلوك والوعي. تبيّن القراءة أن الطفل في النص ليس مجرد شاهد، بل حامل لمعاني التحول الاجتماعي في مجتمع يعيش بين السلطة التقليدية وغياب الدولة، بين الانتماء والرفض، وبين الهروب والعودة. قراءة سيكولوجية لشخصية الكاتب فيما يلي استخلاص دقيق ومفصل لشخصية الكاتب أحمد سيف حاشد من خلال تحليل نص "هروب وعودة"، اعتمادًا على المؤشرات النفسية والسردية واللغوية التي يكشفها النص عن تكوينه الداخلي وتجربته الحياتية ذاكرة حادة ومركبة النص يكشف قدرة غير عادية على تذكّر: التفاصيل الصغيرة (اتجاهات الجبال، شكل النتوءات، مسافة الأمتار) حالات الانفعال الألفاظ التي قيلت حركة الأب، نظراته، بندقيته. هذه الدقة في الاستعادة لا يقوم بها إلا شخص: يعيش ذاكرة الصدمة بوضوح، ويستخدم الكتابة لتنظيم الفوضى العاطفية، ويمتلك ذاكرة بصرية ولغوية قوية. وهذه سمة لكتّاب يمتلكون وعيًا ذاتيًا مرتفعًا وقدرة على تحليل طفولتهم من منظور راشد. حسّاسة للغاية تجاه الخوف والعدالة يتضح في النص أن حاشد، وهو طفل، كان: شديد الحساسية تجاه العنف، يقرأ إشارات الخطر بسرعة، يتخيل نتائج تهدد حياته، يحلل دوافع الأب ويخشى مبالغاتها. هذه الحساسية النفسية عادة ما تخلق لاحقًا: شخصية سياسية – حقوقية، واعية بالظلم، شديدة الحذر، ومتمرّسة في قراءة السلطة والخطر، وهي فعلاً صفات الكاتب في حياته الواقعية. ثنائية الخوف والشجاعة من خلال النص يظهر الكاتب كطفل: خائف جدًا، لكنّه قادر على اتخاذ قرار خطير: الهروب من بيت الأب، مستعد للمشي نحو "الحدود" رغم وعورتها، يواجه الموت المحتمل وهذا تناقض نفسي مهم: الخوف العالي وشجاعة عالية، وهذا النوع من الشخصيات يصبح في الكبر: صاحب مواقف صلبة، لا يخاف المواجهة. التأمل والبحث عن المعنى العميق تفاصيل الجغرافيا في النص ليست عرضية، بل تُقدَّم كجزء من شخصية الكاتب: الجبل يصبح رمزًا، الدار يُقرأ بوصفه حصنًا، "الشناغب" تُحلل لغويًا وتاريخيًا، والوادي له معنى، والمسافات ليست مكانية فقط، بل عاطفية. وهذا يشير إلى شخصية: تحليلية، تأملية، تحمل ميلًا لربط التجربة الشخصية بالسياق الأكبر، ترى العالم عبر عدسة رمزية. وهذه سمة مميزة للكتابة الوجودية – السياسية التي اشتهر بها. جرح قديم من خلال النص، يمكن استنتاج أن الكاتب: ينظر إلى السلطة كقوة تهدد لا تحمي، يشعر أن الحماية تأتي من "الأسرة الأمومية" (الأم – الخالة – الجد)، بينما الأب يساوي عنف وغضب وإهانة وتهديد. وهذه التجربة المبكرة تنتج لاحقًا: نزعة مناهضة للسلطة القمعية، شعورًا دائمًا بعدم الأمان، ميلًا للدفاع عن المظلومين، وانحيازًا للفقراء والضعفاء، وعداءً غريزيًا للعنف بأي شكل، وهو ما يتفق تمامًا مع سلوك الكاتب في حياته العامة. "النظام" والدولة الطفل الهارب يتخيل أنّ "دولة الجنوب" ستوفر له: عدالة، حماية، قانونًا، نظامًا يقيه العنف الأسري. وهذا الخيال الطفولي يكشف عن حاجة نفسية عميقة رسخت في شخصية الكاتب: الحاجة للدولة، الرغبة في القانون، الحنين للنظام، الخوف من الفوضى، رفض العنف غير المنضبط. هذه القيم تظهر في كتابات حاشد السياسية والنقدية. الشعور المبكر بالمسؤولية الجملة المحورية: "كنتُ أنا السبب الأهم في استمرار زواج أبي وأمي." تدل على أنّ الكاتب، حتى وهو طفل، شعر أنه مسؤول عن إنقاذ الأسرة. وهذا النوع من الأطفال غالبًا يصبح: ناضجًا قبل عمره يحمل عبئًا عاطفيًا أضخم من طاقته، يميل إلى حماية الآخرين، يطور شخصية "حادّة المسؤولية" في حياته لاحقًا. وفي نص حاشد وسيرته السياسية، تظهر هذه السمات بوضوح. رفض الظلم الهروب من الأب ليس مجرد خوف، بل: رفض أن يُهان، مقاومة مبكرة، حسّ بعدم الرضا عن الاستبداد، شعور بأن الحياة تستحق الدفاع عنها. هذه النبرة الأخلاقية العالية تكشف شخصية: متمردة، ملتزمة بقيم العدالة، قادرة على العصيان حتى في الطفولة. قدرة عالية على تفكيك ذاته بصدق النص يعكس شخصية تمتلك: وعيًا ذاتيًا، قدرة على الاعتراف بأخطائها، ميلًا لنقد الذات (يقول: "شعوري ربما كان مبالغاً فيه")، حيادية في الحكم على الماضي، عدم تبرير الذات. وهذا يشير إلى نضج نفسي وحس صريح بالمسؤولية العاطفية. تكثيف سيكولوجي شخصية أحمد سيف حاشد كما تنعكس في النص هي: طفل ذو حساسية عالية تجاه الخوف، يحمل جرحًا قديمًا من سلطة أبوية قاسية، لديه ميل للمواجهة رغم هشاشته، يرى العالم من منظور العدالة مقابل العنف، يقدّس القانون والنظام لأنه حُرم منهما، يحمل ذكاءً تحليليًا وتأمليًا يمتلك ذاكرة صادمة تحولت إلى طاقة للكتابة، يعيش بإحساس عميق بالمسؤولية تجاه الآخرين، ويتبنى موقفًا دائمًا ضد السلطة القمعية، صادق في مواجهة ذاته، ذو روح رمزية تقرأ المكان كجزء من النفس وبكلمة واحدة: شخصية أحمد سيف حاشد تشكلت بين جبلين: جبل الخوف وجبل المقاومة. نص "هروب وعودة!" أحمد سيف حاشد هربتُ إلى دار "الشناغب" دار جدي والد أمي وأظن أن "الشناغب" هنا جمع "شنغاب" ويعني النتوء، وربما "الشناغب" تعني قمم الجبال الموجودة ظهر ذلك الجبل الذي يعترش قمته دار جدي. لا أستطيع الجزم، ولكن هي محاولة لمعرفة العلاقة إن وجدت بين تلك التسمية والجبال الناتئة خلفه، أو العلاقة بين الدار ذاته والذي يبدو ناتئا في قمته، والجبال المتساندة خلفه متدرجة الارتفاع، والقمم كبيرها يسند الأصغر منها لتبدو رأس القمم نتوءات أو هامات متوالية، وفي هذا المقام يقول عبد الحافظ عبدالله القباطي شعراً: الشمس تتخاوص قفا الشناغب والسِّحر يسكب للقلوب مطايب يبعدُ دار جدّي هذا عن منزل أبي بحدود خمسة كيلو مترات، ويقع في منطقة قريبة من حدود دولة الجنوب، التي كانت تعرف باسم "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية". يبدو هذا الدار من بعض تفاصيله أنه كان داراً حربياً، في رأس أحد الجبال، تسنده جبال أكبر وأعلى، وينفرد بوحدته فيها، وتوجد منازل عديدة في بعض الجهات المقابلة له شمالاً وجنوبا، وأسفل الجبل يوجد وادي يُسمّى وادي "الصِدر". وفي الجوار الملاصق للمنزل خزان ماء أرضي، وفي الدار كُوَّاتٌ، وشقوق طولية ضيقة، يمكن استخدامها في المراقبة، وإطلاق النار من البندقية إلى الخارج، حيث تسمح بمرور ماسورة البندقية إلى الخارج بقطاع وزاوية معيّنة، ويبدو أن هذا الدار قد شهد شيئاً مما خصص له في زمن مضى وانقضى. أمّي سكنت هذا الدار قليلاً من الوقت قبل مجيئي، وقطنته أنا فترات قصيرة بصحبة أمّي في عهد طفولتي، حالما كانت أمي تحنق إليه من أبي. كنتُ أستأنس هذا الدار وأهله في طفولتي، وفي نفس الدار ولد أخي الأصغر عبدالكريم، الذي فرحتُ به كثيراً يوم مولده، بعد انتظار طال لأخ سيأتي بعد خيبات متكررة. كان جدّي سالم مانع – أبا أمي – يملك أيضاً داراً آخر اسمه "دار موجر"، وتفصله مسافة قريبة من "جن الداجنة"، ويبعد حوالي اثنين كيلو متر من منزل أبي. جدّي هذا كان رجلاً فاضلاً ومسالماً وعرفته زاهداً.. طيب القلب، ونقي السريرة، يقضي كثيراً من وقته اليومي في قراءة القرآن والتحدث في تفاسيره وقصصه وأخباره.. كان تقياً، ورعاً، محباً، لا يحمل ضغينة، ولا يضمر شراً، ولم يعر بالاً أو اكتراثاً للسياسة، ومع ذلك دفع حياته لاحقاً ثمناً لأفعال الساسة، "قومية" و "تحرير" .. مشايخ "عليان" و "سفلان". * * * أقبل أبي غضوباً وثائراً بعد ساعة أو سويعات قليلة من هروبي، رأيته من دار "الشناغب" دون أن يراني.. كنتُ مترقباً مجيئه، وكان حدسي في محله.. رأيته ممتطٍ حمارَهُ الأبيض الذي يشبه الحصان.. كان يعتني به ويهتم به كثيراً، وفيما أنا أرقبه وهو ممتطى حماره في الوادي، رأيت بندقيته مسطوحةً أمامه، مستعداً لاستخدامها في أول وهلة يراني فيها، أو هذا ما دار في خلدي لحظة مشاهدتي لبندقيته.. شعرتُ في مَقدمِه شراً وناراً تستطير.. أنخلع قلب أمّي الهاربة في بيت جدّي على ابنها الذي قد يطاله شر أبيه. لحظتها أخذتُ قراري بمفردي.. لم أشرك أحداً فيه، وكان اتخاذ هذا القرار في لحظة ضيق وجزع.. كان اتخاذه تحت وطأة شعوري أن حياتي مهددة بالرصاص، أو مجهول مفزع سيأتي.. كان دافعي الأول هو النجاة مما سينالني منه، والبقية تفاصيل. خرجتُ مذعوراً من الدار إلى الجبل.. اتجاهي كان نحو حدود دولة الجنوب.. كان أمامي مسلكاً وعراً، وجبالاً متراكمة لا أعرف لها طريق، ولكن الخوف الذي داهمني كان أكبر وأعظم منها.. ربما دار جدي لن ينقذني مما أنا فيه.. لعل هروبي نحو الجنوب أجد دولة تنقذني من جور أبي.. ربما أجد هناك نظاماً يتولَّى حمايتي، ولجم حماقة أبي.. شيء من هذا حدّثتُ به نفسي يومها. واليوم يتبادر إلى ذهني وجه السؤال: هل يشبه اليوم الأمس؟! فأجيب: جنوب اليوم لم يعد كما كان.. لم يعد لنا بقايا وطن.. لا مقام هنا ولا رفعه هناك.. لا مجير هنا ولا مجير هناك.. بتنا هنا وهناك بلا دستور ولا قانون ولا دولة ولا نظام ولا أمن ولا أمان، ولا لقمة عيش كريمة.. كل الأمكنة بيّتوها جحيماً في جحيم أوّلها هنا وليس آخرها هناك. * * * وفيما أنا أهم بالتوجه إلى الحدود عبر مسلك وعر لم يسبق لي أن سلكته من قبل، أو حتّى تخيلته.. خالتي مريم أخت أمي أبلغت والدي أنني تركتُ الدار، وهربتُ إلى الجبل. كانت خالتي قوية الشخصية.. صارمة وحازمة.. تجيدُ الاستبسال والمواجهة، والتحريض أيضاً، وقراءة كتاب "الرمل" وفك طلاسمه، والتعاطي معه بما ترجوه. أدرك أبي وجهتي، واستطاع الإسراع بحماره إلى الجانب الجنوبي الغربي من الوادي، ليقطع وجهتي في الجبل، ويحول دون وصولي إلى تجاوز الجبل الأول في اتجاه الحدود.. رأيته يشهر بندقيته، ويوجهها نحو الجبل الذي أنا فيه؛ فاختبأت خلف نتوء صخري في كنف الجبل حالما شاهدته يحاول قطع اتجاهي وطريقي. وبعد طول تفاوض مع خالتي مريم، ورجال خيِّرين من عابري السبيل، التزم أبي أن لا يؤذيني، مقابل أن أعود إلى منزله. ربما شعوري المبالغ فيه جعلني أفكر أن أبي بات يستقصد حياتي.. طفل يبحث عن فرصة نجاة من أبيه.. نادتني خالتي بأن أعود، ولن يلحقني شر أو ضرر منه، وبعد توجس طمأنني الجميع أن الأحوال ستكون لطيفة، إن لم تكن على خير ما يرام، ولن يحدث لي أي مكروه؛ وكان أبي بعد أن أدرك وجهتي، قد وعد أمام مشهد من الناس ألا يلحق بي ضرراً أو انتقاماً.. شرطه فقط أن أعود إلى منزله.. ربما بدا لي الأمر أشبه بصفقة ممكنة. نزلتُ من الجبل بعد ما يشبه عملية تفاوض قادته خالتي من جهتي، فيما عاد أبي وهو يبلع غيظه، مستشعراً بعدم الرضا؛ لأنه لم يشبع انفعاله، ولم يشفِ غليله الفوار. عدتُ بموكبٍ يحيط بي.. كانت بعض النسوة وأختي من أمي "هناء" إلى جواري يرافقن عودتي, وحوالي خمسمائة متر تفصلنا عن مسير أبي وحماره.. كان أبي ينتظرنا في كل منعطف حتى نقترب منه. بدأتَ المسافة مع السير تضيق وتضيق أكثر.. وعندما بلغنا منطقة تسمى ب: "سوق الخميس"، أغلب الظن أن أبي لم يحتمل أن يراني أسجل عليه ما بدا له انتصاراً مستفزاً. استفزه منظري الذي بدوت فيه المنتصر، وساورته الريبة بأنني أُشمت به، وأنال من سلطته وسلطانه.. ربما هذا ما فكر به، حالما كُنّا نتبعه في الطريق، وهو بين حين وآخر يرمقني بنظرات فارغة من التطبيع واللطف. لم يحتمل أبي ما جاش في صدره الذي ظل يغلي، فثار غضبه فجأة.. تمتم بالسباب المنفعل، وصوّب بندقيته بانفعال نحوي.. حمتني النسوة بأجسادهن؛ وتعالى الصراخ والذعر في المكان. تدخل المارة، وكل من كان على مقربة منّا؛ وانتهت الجلبة حينما قطع أبي على مضض عهداً آخر للناس بألاّ يُلحق بي سوءاً أو ضرراً، وبر هذه المرة بوعده، ولكن على كره ومضض. ربما لم يطق ابي أن يشاهد ما تصوره انتصاري المستمر عليه، وحتى لا ينكث عهداً قطعه مرتين أمام مشهد من الناس؛ أعادني إلى منزلنا القديم الذي كان يسكنه أخي علي، وليس إلى منزلنا الجديد الذي يقيم هو فيه. عاد أبي بعد أيام ليتصالح مع أمي وأهلها، ثم عدتُ إلى بيت أبي من جديد في حضرة أمي التي ندمت أشد الندم على ما حدث، وعلى تركها لي أياماً كنتُ خلالها أحوج ما أكون إليها بجانبي. مر العيد بخسارة أقل.. مر بسلام صعب بعد أن كنتُ أتخيل أنه سيتحول إلى ميتم، أو مجهول لا أعرفه!! كنتُ أنا السبب الأهم في استمرار زواج أبي وأمي، رغم المشكلات والخطوب المتعددة التي مرّ فيها هذا الزواج الصعب، وأفلت منها بأعجوبة ربما تشبه المعجزة.