تكاثف الحديث الشهر الماضي حول قضية استسهال بعض المسلمين تكفير بعضهم بعضاً. ففئام منهم اتهمت آخرين بأنهم خوارج، وفي الوقت نفسه اتهم الطرف الآخر من كفّرهم بأنهم مرتدون. علماً أن الطرفين يدركان أن العلماء قرروا أن من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هو المسلم، وأن هذه الصفة لا تزول عنه إلا بالكفر الصريح الذي لا يقبل التأويل، ومن ثم فليس من السهل الجرأة على نزعها عنه بالتشكيك.
قال الشيخ ابن تيمية: (إن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئاً من الدين يكفر. وليس لأحد أن يكفِّر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة).
ظاهرة التكفير بين الأديان والمذاهب بعضها بعضاً ليست وليدة اليوم، فقد مورست حقباً طوال ومتعاقبة، من خلال تأويل النصوص الدينية، والمصطلحات الفقهية، لمصلحة وجهة النظر التقليدية، اتبعته بعض الجماعات المتشددة، متخذة من الفكر العقدي سلطة دينية لفرض سيطرتها على المجتمعات. هذه الظاهرة ممتدة عبر الأديان التي سبقت الإسلام. فالديانتان، اليهودية والمسيحية، وإن كانت نصوصهما لا تتضمن كلمة التكفير بالمعنى الاصطلاحي ذاته، الذي تبناه بعض المتشددين من المسلمين حديثاً، ولكنه موجود بمعانٍ مختلفة.
عرّفت المعاجم اللغوية العربية كلمة التكفير، من المصدر الكُفْر، بأنه ضد الدين. أما المعاجم اللغوية الحديثة فقد عرّفت كلمة الهرطقة بأنه البدعة في الدين. وهي كلمة ذات أصل يوناني دخيلة على اللغة العربية، ومعناها في أصلها اللغوي انتقاء، أو انتخاب، أو اختيار لرأي ما، مع تفضيله على غيره من آراء. ثم تطورت الكلمة عند اليونانيين المتأخرين وعند كتّاب الرومان فأصبحت تستخدم للدلالة على مذهب من المذاهب الفلسفية، أو مدرسة من مدارس الفكر. وأخذت الكلمة طريقها إلى الدين فصارت تُطلَق على الفرق أو الطوائف الفكرية المختلفة داخل هذا الدين أو ذاك. ويُطلق عليها أيضاً مصطلح الزندقة heretic، وهي تغير في عقيدة أو منظومة معتقدات مستقرة، ولاسيما الدين، بإدخال معتقدات جديدة عليها أو إنكار أجزاء أساسية منها، وهو ما يجعلها بعد التغير غير متوافقة مع المعتقد المبدئي الذي نشأت فيه هذه الهرطقة.
في «العهد القديم» استعلمت هذه الكلمة في أحد المعاني السالفة ففي «سفر التكوين» 49/5 وردت بمعنى الاختيار «شمعون ولاوي إخوان تعاونا على الظلم باختيارهما»، وفي «سفر اللاويين» 21,18:22 وردت بمعنى تقدمة اختيارية، وفي «سفر المكابيين الأول» 20:8 وردت بمعنى رضا فريقين متعاهدين.
ظهرت في المسيحية خلال عصورها الأولى آراء متباينة في العقيدة المسيحية، فذهب بعض إلى أن الرب واحد وفي جوهره مثلث الأقانيم. وذهب بعض آخر إلى أن إنكار لاهوت المسيح، وأنه لم يكن إلهاً، بل هو مجرد إنسان مخلوق. وتم إطلاق مصطلح الهرطقة على كل ما عدّه الأكثرية خروجاً عما اعتبرته تفاسير وتأويلات غير صحيحة لمفهوم آيات الكتاب المقدس.
في «العهد الجديد» تطور استعمال كلمة هرطقة، فانحصر في الدلالة على مذهب ديني لطائفة من الناس تجمعهم مع آخرين رابطة دينية معينة، ولكنهم يتميزون عنهم بآراء مغايرة أو تأويلات خاصة مخالفة، تجعل منهم فرقة أو شيعة في داخل الدين العام. ولهذا أطلقت هذه الكلمة على كل المذاهب اليهودية، فقيل شيعة الصدوقيين، وأطلقت على مذهب الفريسين، بل أطلقت كلمة شيعة أيضاً على الديانة المسيحية، ففي «سفر الأعمال» يُوصف القديس بولس الرسول على أنه «إمام شيعة (هرطقة) الناصريين». وفي «سفر الأعمال» أيضاً يقول القديس بولس الرسول: «حسب الطريق الذي يقولون له شيعة (هرطقة) أعبد إله آبائي».
يلاحظ في النصوص أنها عدّت الهرطقة، في نظر اليهود، إما أن يكون استخدامها حسناً باعتبار المسيحية مذهباً، أو مدرسة، أو طائفة، مثلها مثل المذاهب اليهودية، كالفريسين والصدوقيين وما شابههم، أو قد يكون لها هنا معنى سيئ باعتبارها مذهباً معادياً انحرف، في نظر اليهود، عن الصواب، وخرج عن الحق الإلهي، وهو المعنى الذي تطورت إليه هذه الكلمة اليونانية فيما بعد.
ومهما يكن من أمر هذه الكلمة، فقد استخدمت بمعناها السيئ في «العهد الجديد»، أي بمعنى الفرقة التي انحرفت عن الحق الإلهي. فأحياناً تجيء مرادفة للشقاق الضار بسلامة الكنيسة، ولذلك عدت من أعمال الجسد وأفعاله الأثيمة التي تحرم صانعيها من دخول الملكوت ففي «كورنثوس 2» 19,18:11 «أسمع أنه توجد بينكم انشقاقات، وأصدق بعض التصديق، لأنه لا بد من أن يكون بينكم هرطقات أيضاً، ليكون المزكون طاهرين بينكم». وفي «بطرس2» 1:2 «وكما يوجد أيضاً في الشعب أنبياء كذبة، كذلك سيكون فيكم أيضاً معلمون كذبة الذين يدسون هرطقات مهلكة».
في العصر الرسولي الأول اتخذت الكلمة المعنى نفسه، وأخذ هذا المعنى يسود شيئاً فشيئاً حتى أصبح تقريباً هو المعنى الأول، الذي يقفز إلى الذهن عند سماع هذه الكلمة. فإذا ذكرت هذه الكلمة فهي للدلالة على التعاليم الكاذبة المخالفة للتعليم الرسولي بامتداد الكنيسة ونمو سلطانها الروحي، باعتبارها حامية الإيمان الرسولي، ومستودع العقيدة المسيحية القويمة، ومكفّرة لكل تعليم غريب عن تعاليم الكنيسة، وأصبحت الهرطقة شيئاً فشيئاً جريمة شنعاء، يعد مؤسسها أو المنتمي إليها خارجاً عن تعاليم الكنيسة ومعادياً للملة. وقد ذهب بعض القديسين إلى قبول أي اتهام في أخلاقه، إلا الاتهام بالهرطقة.
لذا فكلمة هرطقة ليست وصفاً موضوعياً، وإنما تنطلق من وجهة نظر من يستخدمها الذي ينتمي إلى جماعة كانت قد اتفقت في ما بينها مسبقاً على ما هو «أورثودوكس»، أي صحيح وملتزم بالأصل، أي أصولياً. فمن أجل أن يوجد من يمكن وصفه بالمهرطق، فإنه يجب أن يسبقه وجود نظام راسخ من المعتقدات (دوجما) يوصف بأنه أورثودوكسي. وتستخدم كلمة هرطقة لوصف أي رؤية لا تتوافق مع الراسخ في أي مجال.
وفي المقابل فإن من يُوصَفون بأنهم هراطقة يرون أنفسهم أنهم إصلاحيون أو مجددون أو أنهم يُنَقُّون العقيدة ويخلصونها مما شابها، أو أن فهمهم لها هو الفهم الأصلي الذي انحرفت عنه الجماعة التي تصف ذاتها بأنها «أرثودكسية».
الأبيونيون هي إحدى الفرق التي ظهرت في القرن الأول الميلادي كانوا ضمن من سمتهم الكنيسة بالهراطقة. والأبيونية، وهي كلمة عبرانية معناها الفقير أو المسكين، حركة قريبة الشبه بالتهويدية (إحدى حركات الهرطقة في القرن الأول الميلادي)، من حيث استمساكها بدرجات متفاوتة بالتعاليم الموسوية، انتشرت في فلسطين والمناطق المجاورة، مثل قبرص وآسيا الصغرى حتى وصلت إلى روما. وعلى رغم أن معظم أتباعها من اليهود فقد اتبعتها أمم. ظهرت الهرطقة الأبيونية في أيام المسيحية الأولى، لكنها لم تصبح مذهباً له أتباعه ومريدوه إلا في أيام حكم الإمبراطور تراجان (52 -117م). واستمرت حتى القرن الرابع الميلادي.