لم تعد تتيسر لي قراءة روايات صديقي العتيد، أمير تاج السر، أَولاً بأول، والتي يُوالي إصدارها بهمةٍ ووتيرةٍ يُغبط عليهما، وصارت أزيد من خمس عشرة رواية فيما أُخمن. وإذ فرغتُ، للتو، من مطالعة (إيبولا 76)، فإن شعوراً بالخسران اجتاحني، لأن بعض أعمال أمير فاتتني، وإنْ سلواي في أمري هذا أن مذاقات (كرمكول) و(سماء بلون الياقوت) و(زحف النمل) و(توترات القبطي) و(رعشات الجنوب)، وغيرها، باقية فيّ، أما تحفته (مهر الصياح) فقصة أخرى. وأظنه الخوف الحادث، الآن، في العالم، من مرض إيبولا الذي يضرب، منذ شهور، في غير بلدٍ إفريقي، وبدأ يتسلل إلى أميركا وغيرها، ما دفعني لاستدراك تأخري عن قراءة رواية صديقي، وهو طبيب سوداني كما يعرف قراؤه، وقد صدرت عن دار الساقي في 2012، أي قبل عامين من الجزع الراهن في العالم من المرض الفتاك. ومدهش في (إيبولا 76) أنها تذهب بك إلى هناك، إلى إفريقيا، وإلى قتلٍ مريع يُحدثه هذا المرض هناك، ويودي ببشرٍ يورطك أمير تاج السر، في روايته، في إمتاعٍ ومؤانسةٍ معهم. في بساطة سردية، واحتفال بالحكاية، أولاً وأخيراً، وبإيقاعٍ كلاسيكي شديد الحيوية في تناسل القصة من القصة، يبني أمير تاج السر روايته، (غير الجديدة طبعاً)، ويُحافظ على وفائه لسمتْه البديع في نصوصه، حين يُعطي الشخصيات التي قد تُحسب ثانويةً حقوقها كاملةً. أمات إيبولا كثيرين في محكيات أمير ومروياته في عمله اللافت، وكاد يقتل عامل النسيج، لويس نوا، الشخصية المحورية، غير أن هذا الشاب القادم إلى كينساشا من أنزار في جنوب السودان، نجا، لأن (قدره؟) قضى بهذا، وأيضاً، لأن أمير تاج السر يريد أن ينتصر للحياة والحب في مواجهة إيبولا، يريد أن يضحك عليه، وهو الفيروس الذي كثيراً ما يحضر في الرواية ضاحكاً، بل "كان يضحك، ويودُّ لو ينطق، ليذكّر الناس كلهم بأنهم ميتون لا محالة". إنه "مطلق السراح"، ورهيب "ويضحك، كأنه يسخر من السلاطين وأولياء عهودهم". هو "وباء قابض على حلق المدينة". ماتت تينا أواقوري، زوجة لويس نوا، انتظرت عودته من كينساشا، واشتهت أن يصير لها طفل منه تسمّيه ماجوك، على اسم خالها الراقص في فرقة أنزارا للفنون الشعبية. ومات الكيني أنامي أوقيانو، الستيني الذي حاول إنقاذها. ومات عمال عديدون في مصنع جيمس رياك للنسيج. ومات الطبيب نصر الدين أكوي، الذي أدى واجبه كاملاً في مكافحة الوباء، فلم يُرد الطبيب الوثني لوثر لنفسه هذا المصير. ولم نتبيّن ما إذا كان الساحر جمادي أحمد الذي ينحاز إلى القائلين إن البيضة من الدجاجة، قد مات أم لا، وهو الذي ظل ينتظر نجدةً من الوباء المميت، حتى ظنها قادمةً في سرب طائرات هليوكبتر يلحظه، فجأة، من بعيد. فلتت من كيسه ألعابه الحية، الدجاجة والأرنب والحمامة، وتحرّرت منه. أما عازف الغيتار الأعمى، روداي مونتي، فقد ظن أن النجدة ستأتيه وحده، عندما تغادر به طائرة. وفي الأثناء، كان إيبولا نشطاً في القتل والتشريد و"تفرقة المرأة عن زوجها، والجارة عن جارتها اللصيقة"، ولا يقف إغلاق الحدود عائقاً أمام الرعب الذي يحدثه... الرعب الذي عاشته، كاملاً، في الحياة، كاريس بيردن، فأحبت الرواية بشدة، فترجمتها إلى الإنجليزية، لتصدر عن دار نشر بريطانية قريباً، ثم ليقرأ من سيقرأ صنيعاً بديعاً أنجزته مخيّلة صديقي، أمير تاج السر، الشاسعة، استيحاءً من مقتلة وباء إيبولا في الكونغو في العام 1976، في روايته هذه، وقد أوحى فيها باحتمال أن يكون إيبولا، في ذلك العام، قد شبع، أو "هزته صحوة ضمير مباغتة"، غير أن أمير كتب، أيضاً، أن "الوباء قادر على العودة، ولو بعد حين".