الإسلام كعلم ومعرفة، أو كفقه وأحكام، أو وعد ووعيد، أو حركة وجهاد، أو سياسة وحكم، أو دولة ومجتمع، أو تصوف وسلوك، أو مشروع أسلمة، أو شخصنة ورمزنة من خلال الدولة والجمهورية، أو من خلال أعلام أو إعلام... كل ذلك زيف أو حقائق، أو تجارب أو أحداث مرت أو لا تزال في مراحل متعاقبة وظروف مختلفة أو متخلفة، ولمصالح متنوعة.
لست هنا للوقوف مع كل توجه لمحاسبته ونقده، ولا حتى لتبجيله ورفعه، ولكن الحديث مختلف، ومختلف جداً، إنه الكلام حول «الإسلام... بفهم جديد يتجدد»، والأمر في ذلك ينطلق من ركيزتين، أولهما: أن الإسلام دين من وحي الله، ليس من وحي الدولة ولا وحي الجماعة والحزب، ولا من وحي الفقيه، ولكن الدولة والجماعة والفقيه والناس أجمعين يتدينون به معرفةً وسلوكاً، كلٌّ من مكانته، وبحسب استطاعته (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل)، (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها). إن الإسلام دين الله، فهو دين العظمة الإلهية والحكمة الربانية. وأما التدين كفعل بشري فهو كسائر أفعال البشر يتعرض لكل خصائص الطبيعة البشرية من النقص والنسيان والأنوية والخلاف والتنازع والابتداء والانتهاء، وقابليته للتطور والتركيب والتفاعل، بل والقوة والضعف، وكذلك التحول والتغير، وفقاً لقانون التأثير والتأثر. المهم أن الفهم البشري للدين أو الاتباع له لا ينفك عن طبيعة البشر، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما صلى بالناس الظهر ركعتين قال في نهاية مما حدث: (إنما أنا بشر فإذا نسيت فذكروني)، بل إن الله أمره أن يقول لمن يطلب منه ما ليس في حدود بشريته: (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً)، وهكذا فإن سلوكيات المتدين لا تخرج عن كونها منتجه هو، إما في فهمه ومعرفته أو في سلوكه وتعاملاته، فلما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجلين: (لا يصلي أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، وصلى أحدهما العصر في وقتها قبل وصوله إلى بني قريظة، والآخر صلاها بعد وقتها، ولكن في بني قريظة، فإن كلاً منهما انطلق من فهمه، ولم يكن في الحال تصويب أو تخطئة، وكذلك السلوك الغالط هو تفاعل المتدين نفسه. فلما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على زوجه عائشة ووجد عندها امرأة، قال: مَنْ هذه؟ قالت: هذه فلانة تذكر من صلاتها وصيامها (أي كثرة الصلاة والصيام)، فكانت تحتاج إلى تعديل في السلوك، فقال عليه الصلاة والسلام: (مه -كلمة زجر- عباد الله عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا)، والأمثلة في ذلك كثيرة وطويلة، بل كان عصر النبوة كله على هذا النسق وبمفهوم واعٍ لليسر والتيسير والبسط والسعة. وهي المعاني المقدسة التي تضمن جوهر الإسلام وجماليات التدين.
ثانياً: إن الإسلام دين الله للإنسان، وإذا كان القرآن الكريم هو وحي الرسالة ومصدر التلقي والترقي؛ فإنه مرتبط مع الإنسان ارتباط الخَلق والخُلق، ففي الخَلق يقول الله: (الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان)، وفي الخُلق أجابت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لما سئلت عن خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن (خُلقه القرآن). كون الإسلام دين الله للإنسان فإن اهتمامه البالغ به في تحقيق مصالحه وجلبها ودرء المفاسد عنه وتقليلها، وتحميله مسؤولية وجوده في الحياة، وتيسير التشريعات له، كل ذلك لن يتجلى في الرؤى الرتيبة والعقول المحدودة والنفوس الضعيفة، لن يتجلى ذلك إلا من خلال «الإسلام كمشروع حياتي وإنساني» ينطلق من طبائع الأفكار وليس من تطويع الأفكار. وللتوضيح والإيضاح أعود إلى القرآن الكريم كوحي الإسلام لأجد أن ممارسات بعض المسلمين معه لم ترتقِ إلى قراءة أفكاره، وإنما الذي يجري ما صوره الدكتور داود رهبر بقوله: «بعض علماء الدين يقرأون في القرآن أفكارهم الخاصة» والأمر تجاوز علماء الدين إلى كل أحد. الإسلام كمشروع حياة يجب أن يترقى من المشاهدة إلى الشهود، شهود في كل حضارات الإنسان وتنموياته، شهود يحقق له الجاذبية الذاتية التي تُظهر قوته في مضمونه، وحقيقته في جوهريته، جماليته التي تجذب إليه أتباعه وغير أتباعه، جاذبيته التي يكتسبها دعاته منه، وليس هم من يكسبه إياها، وتلك حقيقة التمثل والتمثيل: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني).