من نعم الله على بعض الدول أن سخر لها أنظمة حكم وحكاماً يملكون مقومات الحاكم، ويستشعرون أهمية الحكم. رجالاً أو نساء استطاعوا وعبر العديد من المواقف والظروف الحادة جداً أن يسيروا بالسفينة إلى بر الأمان. وله سبحانه وتعالى حكمة عندما ابتلى دولاً أخرى بأنظمة وساسة لا يملكون إلا التهور والانفعال والشعور بالعظمة وقادوا أوطانهم وشعوبهم إلى الهلاك. لست هنا بصدد الحديث عن دول باسمها وسأعرج على ذلك للتوضيح فقط، لكن الذي يهم هو أن نفرّق بين أنظمة وأنظمة وحاكم وحاكم انطلاقاً مما يتحقق على الأرض من منجزات أو فشل، بدلاً من تقويم الحاكم من خلال الضجيج وأبواق الإعلام والخطب الرنانة المسلطة لدغدغة المشاعر فقط. السياسة فن وخبرة واستيعاب لما يجري واستفادة من تجارب تحدث في كل مكان. لم تكن السياسة الناجحة في أي يوم من الأيام نتيجة لتهور حاكم أو لتحالف مشبوه أو لتخطيط أعرج يدفعه الغرور أو الحقد والكراهية والبغضاء والغيرة. ولم تكن السياسة يوماً تبديد الثروات والاحتياطات والاستثمارات المتنوعة في البلد على رهانات خاسرة في الخارج. السياسي الفذ الذي تتعطر بسيرته كتب التاريخ هو الشخص الحكيم الذي يتمتع بالصبر والتروي ومواجهة الشدائد ما أمكن من دون المساس بالأمن الوطني. التاريخ مليء بالعبر والدروس، إذ لم ينفع الشعور بالعظمة وانتفاخ الذات أدولف هتلر ولا إمبراطور اليابان ولا صنم كوريا الشمالية المعاصر ولا حتى عبدالناصر والخميني والقذافي وصدام حسين.
«لقد أثبتت الأحداث أن الزج بالعراق في المعضلات الإقليمية - بما في ذلك العربية - كان خطأ فادحاً، لأن العلاقات الإقليمية والعربية والدولية كانت مضطربة، ويفترض تبني سياسة وطنية صرفة، حتى إذا وصفت بالعزلة.. فالشعارات والخطب الرنانة تلهب مشاعر الناس، لكنها لا تمثل الطريق العقلاني المناسب صوب الأهداف. غير أن بعض السياسيين العراقيين الفاشلين لا يزالون يتصرفون بطرق متخلفة، ويحلم بعضهم بوضع لن يكون حظه أفضل من حطام ما كانوا يسمونه «البوابة الشرقية»، فهؤلاء لا يقلون جهلاً عن الحاكمين قبل 3 عقود». (وفيق السامرائي - صحيفة الشرق الأوسط).
ولو عدنا إلى التاريخ فلن نجد الكتب والسير الذاتية ذات الديمومة والمواقف العظيمة عن الحاكم الظالم، بل عن الحاكم العادل الذي صنع الكيانات. هؤلاء هم من تدرس سيرتهم في الجامعات ويبذل طلاب الدراسات العليا الوقت والبحث عن فهم أسرار تفوقهم. ومن غير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ضرب أروع الأمثلة والمواقف في تحكيمه وعدله. قارن بين سيرة الحجاج بن يوسف وعمر بن عبدالعزيز الذي لم تتجاوز مدة حكمه السنتين. وقارن بين المواد التاريخية الموثقة لكل منهما.
عندما وحد الملك عبدالعزيز قبائل وهجر الجزيرة العربية المتشتتة من شرقها إلى غربها ومن جنوبها لشمالها لم يكن مدفوعاً بالعظمة والطمع والغرور ولو كان كذلك لاستولى على مناطق إضافية. كان قلّما يغضب أو ينفعل ولا يتحرك إلا بتأنٍ وتفكير وتخطيط وبعد نظر يستشرف المستقبل. كما أن العدل والرحمة والخوف من الظلم أو تجنب أكل حقوق الغير بالباطل صفات ملازمة للسياسي العظيم. عبدالعزيز -مثالاً- لم تفارقه هذه الممارسات وكان يطبقها على أهله وعشيرته قبل أن يطبقها على العامة من سكان الجزيرة. النتيجة مولد المملكة العربية السعودية بكل ما يجري بداخلها من تطور وبناء. وبفضل الحكمة التي مضى ويمضي عليها الملوك من أبنائه تبوأت هذه الدولة مكانة عالمية راسخة في الكثير من القضايا. يكفي فقط الإشارة إلى عضويتها في نادي ال20 العالمي. هذه المكانة لم تأت بسبب النفط فقط، بل بسبب سياسة الدولة القائمة عليه وحكمة قادتها واحترام العالم لهم.
الشيخ زايد بن نهيان -رحمه الله- استطاع إقناع بقية أمراء ما يعرف اليوم بالإمارات العربية المتحدة وأسس بذلك وحدة رائعة ومتماسكة. ها هي الإمارات التي تملك ثاني أكبر اقتصاد في العالم العربي تتحول إلى دولة مركزية ليس فقط في الخليج ولا بين الدول العربية بل في العالم. يكفي ما نراه من حراك عالمي في المصارف والسياحة والضيافة وصناعة النقل الجوي والموانئ. إنجازات تفوقت على دول أمضت العقود العديدة وهي تحاول الوصول إلى مثل هذه الأهداف. أوردت مثالي المملكة والإمارات شاهداً على ما تعيشه معظم دول الخليج العربي من استقرار وتنمية وبناء سريع للغد وتحدياته بفضل سياساتها وابتعادها عن التهور والمغامرات الطائشة.
وكما اُبتلينا في عالمنا العربي بعدد من الساسة المستبدين المتهورين ومعظمهم أتى بعد ليلة انقلاب وها هو الزمن يحصدهم واحداً تلو الآخر، فإن الغرب هو الآخر لم يكن بمنأى عن ذلك، لكن أحداثه سبقتنا بمئات السنين. وقعت المصائب هناك وسالت الدماء وعانت الشعوب من المآسي لقرون عدة. في النهاية كان لا بد لهم أن يتوصلوا إلى أنظمة تلغي تقريباً وجود الاستبداد وذلك من خلال الدورات الرئاسية التي تحدد بقاء الحاكم زمنياً ومجالس التشريع المنتخبة والتي بدورها تستبدل الأعضاء بشكل مستمر عبر التصويت والاقتراع. وقبل ذلك دونوا دساتير صارمة لا يمكن تجاوز موادها إلا عبر الاستفتاءات الشعبية. توصلوا لذلك وكما أشرت بعد أن حصد التهور والجنون عند قادتهم ملايين الأرواح في حروب دينية وسياسية لا يوجد لها مثيل في تاريخ الإنسان قاطبة. عندما وضعوا الدساتير ووفروا آليات المراقبة والتطبيق توجه تركيزهم كما نرى إلى الصناعة والتنافس وتطوير القدرات البشرية وهاهم يتسيّدون الكرة الأرضية فكراً ونمواً وأنظمة عدلية مبهرة وقيماً إنسانية في غالبها رفيعة ومثيرة للدهشة، بل إنهم تجاوزوا الإنسان إلى الحيوانات واعتبروا الاعتداء عليها جريمة.
المؤلم أن عالمنا العربي بعيداً عن دول الخليج المستقرة، يتصرف وكأنه لا يرى ولا يسمع. يشاهد أمامه عوامل الاستقرار هناك ويقرأ التاريخ الذي مضى بوحشيته ودمويته، لكنه يصرّ على خوض تلك التجارب من جديد. الإسلام السياسي هو الأكثر وضوحاً هذه الأيام. صراع «الإخوان» مع الغير بعد هزيمتهم الكبرى في مصر تمدد إلى عمليات إرهابية في كل مكان. على مقولة إما أن نحكمكم وإما ندمركم. هذا تماماً ما فعله قساوسة الكنيسة في أوروبا. النتيجة ماثلة أمامنا اليوم. أين القساوسة؟ هل يتمتعون بأي مراكز قوى معتبرة؟
كما أن هناك -ومع بالغ الأسف- بعض الساسة ممن راهن على حركات الإسلام السياسي، وأنفق من حر أمواله لدعمهم لأهداف لا تخفى على كل ذي لب. حتى هؤلاء بدأوا بالتراجع بعد أن وجدوا معظم المنافذ وقد أغلقت في وجوههم.
العامل المشترك هنا هو شخصية السياسي التي بدأت بها في هذا الموضوع. لو راجعنا الشخصيات القيادية للجماعات إياها أو لمن دعمهم من قادة بعض الدول لوجدنا أن انعدام الخبرة والشعور بالعظمة الزائفة أو بتكدس الأرصدة المالية هي العوامل المشتركة. هؤلاء ليسوا ساسه، بل مجرد قياديين في وقت وظروف محددة غالباً لا تطول.
مهمة الساسة عظيمة فهم بعد الله من يؤمن السلام ورغد العيش ويضع الخطط التي ترفع من قيمة ومكانة البلاد. هؤلاء هم من يستحق إطلاق صفة الساسة عليهم لأنهم بدهائهم وحكمتهم واستغلالهم الأفضل للظروف تحقق لهم ما خططوا له.