من المعقول جداً، في تاريخ اللغة والسياسة أنه في البدء تم أخذ مصطلحات ومفاهيم وحتى ممارسات «السياسة»، المعنية بإدارة مصالح الإنسان، عن نظيراتها الرعوية، المتعلقة بإدارة شئون الحيوان. العلاقة بين ممارسة السياسة وإدارة مزرعة حيوان، أوضح مما قد تبدو، فكلاهما تتضمن أساليب ترويض واستدراج وسيطرة وتحكم .. كما تظل السياسة العربية الراهنة شاهدا حياً على هذا التجانس، إذ لم تبتعد هذه السياسة الملتزمة، بعدُ، تماماً، عن مفاهيمها وممارساتها القديمة، ومن الواضح أنها لن تبتعد عنها حتى إشعار آخر. ما يزال السياسي العربي، في السلطة والمعارضة، يتعامل مع قضايا «الرعية» كما كان جده الراعي يتعامل مع شئون الماشية، ويسوس الناس كما كان سلفه الأول يسوس الخيل..! الحكام لا يحكمون بل يتحكمون، ولا يمارسون السلطة بل التسلط، ويتعاملون مع شعوبهم وأوطانهم بطريقة الملّاك لا الملوك..! المعارضة العربية بدورها لا تعارض طريقة التحكم هذه، ولا تفكر باستبدالها، بل تعترض طريق الحاكم، وتعمل من أجل إحلال حاكم مختلف محله، لا من أجل تأسيس طريقة حكم مختلفة.! حتى الثورة لم تبتعد كثيرا عن ممارساتها المتأصلة في سلوك الثيران.. كما رأينا خلال الربيع العربي، لقد كان الثوار أكثر الأطراف ابتعادا عن الرشد والاتزان والمسئولية، وانحيازا للطبع العربي البدوي الأصيل، عن التطبع المدني الحديث.! يفسر هذا لماذا لم يتغير الكثير خلال الانقلابات والثورات المتعاقبة في هذه المنطقة التي يعرفها النمرود جيداً؟! ولماذا فقط يتغير الساسة لكن السياسة لا تتغير..؟! المتغير هو: الدول والحكام والوجوه.. أما الثابت فهو: الثقافة الاستبدادية الرعوية، والرعوي الذي تصفه العبارة الشعبية الشائعة ب»مزيل الدول». لكن إذا كان الرعوي المظلوم هو الثابت، فما جدوى أن يتغير ظالم بظالم آخر، طالما الظلم هو السياسة الثابتة.!! هذا الرعوي الثابت، عمود الثقافة الاستبدادية الثابتة، في هذا العقل وفي هذه الثقافة الشعبية العامة يكمن الخلل، ومنهما يبدأ التغيير، التغيير الذي لن يمر من هنا لا يمكن أن يصل إلى نتيجة حقيقية. ما دام المواطن رعويا، فسيظل السياسي سائسا، ولن تبتعد السياسة العربية حتى في آخر الألفية الثالثة، كثيرا عن أصولها الزراعية الحيوانية المتحدرة من الألفية الثالثة قبل الميلاد.