تعد العلاقات الأميركية السعودية منذ لقاء الملك المؤسس عبد العزيز بن سعود، والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، على متن الطراد الأميركي الشهير «يو إس إس كوينسي» في البحيرات المرة المصرية في فبراير (شباط) 1945، وحتى زيارة باراك أوباما الأخيرة للرياض، ركيزة مهمة في المشهد الشرق أوسطي، ضمن ركائز الحفاظ على توازنات سياسية وأمنية واقتصادية في منطقة كانت ولا تزال عرضة للانفجارات. في هذا السياق، يستطيع المرء قراءة الأبعاد الأولية للزيارة الرئاسية الأميركية والتي تتجاوز تقديم واجب العزاء إلى ضمان مسيرة هذا التحالف الاستراتيجي اليوم وغدا. في بيان له عقب إعلان وفاة المغفور له الملك عبد الله، قال أوباما «إن الراحل الكبير كان دائما صريحا وشجاعا في التعبير عن قناعاته، وكانت واحدة من هذه القناعات اعتقاده الراسخ بأهمية العلاقات الأميركية السعودية كقوة لحفظ الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط وخارجه، مضيفا أن «التقارب وقوة الشراكة بين بلدينا هما جزء من إرث الملك عبد الله». لماذا تساءل الأميركيون كثيرا عن حال ومآل تلك العلاقة؟ المقطوع به أن الرياض، ومنذ الحرب العالمية الثانية، قد جذبت انتباه واشنطن، التي كانت محمومة بالمواجهة الساخنة مع الاتحاد السوفياتي. وقد لعبت الرياض منذ ذلك الوقت دورا بالغ الأهمية صب مباشرة في صالح حلف شمال الأطلسي عامة وواشنطن خاصة... كيف ذلك؟ حتما، كان الدور يتصل بالنفط، فقد كان تدفقه إلى الولاياتالمتحدة بأسعار مقبولة ومعقولة عاملا مساعدا لواشنطن لضمان حرية حركتها واتساع مدارات مناوراتها في فرض العقوبات التي تريدها سياسيا واقتصاديا على الدول الحليفة لموسكو، وهو ما عزز مكانة السعودية أكثر من أي وقت مضى، وعليه فإن أهمية النفط السعودي تبدو أنها نشأت جزئيا على أسس سياسية ومنهجية فرضتها الأجواء الكونية السائدة. هل من دلالة للوفد رفيع المستوى الذي اصطحبه أوباما معه إلى الرياض؟ باختصار غير مخل، يؤشر إلى أن الرياض لا تزال في العقل السياسي الأميركي الحالي أهم حليف في منطقة الشرق الأوسط لواشنطن، رغم عدم التطابق بالمطلق في ملفات بعينها، فالمملكة تلعب أدوارا استراتيجية فاعلة وعديدة منذ زمن طويل، وتكفي رؤيتها لإنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي التي قدمتها في مؤتمر القمة العربية ببيروت في عام 2002، كما تمثل الرياض اليوم القلعة الحصينة في مواجهة طاعون القرن العشرين المتمثل في الإرهاب، كما أنها الدولة الناجية من أعاصير الخماسين العربية وليس الربيع العربي المزعوم. هل ترى واشنطن في خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز رمانة الميزان لشعبه وللمنطقة العربية من حوله؟ ذلك كذلك بالفعل، وهو ما تبدى في تحليلات السياسيين الأميركيين وكذا في استشرافات الاستخباريين، حتى وإن غادروا مكاتب لانغلي. خذ إليك ما كتبه بروس ريدل، الذي خدم في المخابرات المركزية الأميركية على مدار ثلاثة عقود خلت، إذ يرى أن الملك الجديد صاحب خبرات كبيرة في شؤون الحكم، وصاحب رؤية إصلاحية، تمزج بين الواقع والمقدرة على استحداث التوازن الدقيق جدا ما بين التراث الديني والاجتماعي للمملكة وبين متطلبات العصر، أي بين الأصالة والمعاصرة. لا تخلو زيارة الرئيس الأميركي من رؤية براغماتية معهودة في السياسات الأميركية تتصل بشقين؛ الأول تعزيز دور المملكة العربي والإقليمي، لا سيما أن الرياض اليوم هي البوابة الرئيسية في مواجهة هجمات تنظيمات الإسلام السياسي التي أثبتت فشلها الذريع خلال الأعوام الماضية، والتي يُخشى من انفلات عقالها، مما يجعل أمن المنطقة نهبا للدواعش وأندادهم بما يؤثر ولا شك على أمن إسرائيل. والأمر الآخر يبقى كذلك النفط السعودي خاصة والخليجي عامة، فالمملكة هي الكتلة التي تسيطر على 40 في المائة من النفط في العالم، ورغم كل ما يتردد عن استخراج النفط الصخري في الولاياتالمتحدة تبقى هناك حقيقة لا مراء فيها، فالمملكة والكويت والإمارات تبلغ احتياطيات نفطها نحو 460 مليار برميل، أما الولاياتالمتحدة وعلى النقيض من ذلك فلديها احتياطيات تقدر ب10 مليارات برميل فقط، والعهدة هنا على الراوي «وكالة معلومات الطاقة الأميركية»، التي أشارت إلى بياناتها مجلة «أتلانتيك» في عدد أخير لها. لا يغيب عن ناظري واشنطن أهمية الخليج العربي، والسعودية كرأس حربة له حول العالم، إذ يحتل موقعا استراتيجيا بين آسيا القوة الكونية القادمة وبين الشرق الأوسط وأوروبا القديمة. هنا يتبدى ثقل مهم واستراتيجي للمملكة في لعبة التوازنات الأميركية الجديدة مع الصين، التنين المتعطش للنفط والتوسع الحثيث، عطفا على الدب الروسي الذي أصبح ثعلبا رشيق الحركة في زمن بوتين، والساعي لتوثيق علاقاته مع دول مجلس التعاون بشكل كبير. إشارات الملك سلمان تؤكد أن بوصلة السياسات السعودية ستمضي في الاتجاه الصحيح تجاه العالم برمته بما فيه واشنطن، وكما كانت في زمن الملك عبد الله، في حين تتبقى أمام أوباما اختبارات مصيرية حتما ستؤثر على شكل تحالف واشنطنالرياض، وفي مقدمتها الاختبار الإيراني.. فانظر إلى أين تمضي واشنطن؟