ربما يكون من المضحك المبكي أنني قد أكون أول من هنّأ الرجل لمنصب قادم ، وربما تُسجل بذلك براءة اختراع باسمي ، وهذا مالا أرجوه ، فالحليلي قائد المنطقة العسكرية الأولى في حضرموت ، والذي نجا في الجولة الأولى من قصف قوات التحالف ، رغم أنه كغيره من قادة الجيش اليمني متعدد الولاءات ، وهو متهم بصدق عن قبوله لسيطرة حوثية قادمة ، وقد كان من الحاضرين الإعلان الدستوري الذي نظمته جماعة الحوثي بعد سقوط صنعاء . هذا القائد (المتحوث) القابع تحت ثوب شفاف يظهر ولاءه الحقيقي ، والذي لا تزال بيده قوة عسكرية لم يستخدم شيئا منها بعد في إثبات ولاءته المتعددة ، نجا من المرحلة الأولى من القصف بفعل أصابع خفية ربما تعوِّل على دور مستقبلي له . وفي حالة استعادة عدن ورجوع الرئيس الشرعي هادي لها ، وفي حالة انتهاء التهديد من الميلشيات الحوثة وبقايا الجيش التابع للمخلوع وانحسار موجة التمدد الحوثي ، فإن على رأس الأولويات التي سيكون على هادي ومن خلفه قوى التحالف مواجهتها استعادة الساحل الحضرمي ومدينة المكلا من يد أنصار الشريعة أو أبناء حضرموت ، ولن يكون بمقدور هادي تحريك قطاعات عسكرية من عدن المنهكة أو أبين أو غيرها ، لذا ستصبح القوة العسكرية التي بيد الحليلي وبعد تدعيمها بعناصر بشرية وزيادة القدرة التسليحية قادرة وراغبة في إعادة احتلال حضرموت من جديد باسم الشرعية مرة أخرى ، وتحت دعوى محاربة التكفيريين ، وسيلقى هذا العنوان تأييد قطاعات حضرمية إما لدواعٍ مذهبية أو معيشية ، وربما رافق هذه الحملة دعم جوي قد تتكفل به طائرات التحالف أو الطائرات من غير طيار. ولاشك أن هذا سيجرف كافة القوى العاجزة والحالمة بحضرموت الجديدة ، سواء في حلف قبائل حضرموت أو المجلس الأهلي ، أو أي مكونات نشأت في ظل هذا الفراغ السياسي ، وستتبخر كل المقالات التي زعمت أن حضرموت لن تهضم حقوقها مرة أخرى . هذا السيناريو الكارثي ربما سيتم حتى قبل استعادة صنعاء ، وربما سيكتفي أزلام الدولة اليمنية في حزب المؤتمر الذي سيتم تنظيفه وحزب الإصلاح الذي سيستعيد كافة رموزه بكانتون شيعي مؤقت في مناطق اليمن الأعلى الداخلية ، من أجل استعادة السيطرة على البقرة الحلوب وتقديمها قربانا في مذبح استعادة اليمن بكامله . وستُجر حضرموت الواقعة في غلٍ عاشت فيه سنينا إلى غلٍ جديد وستجر تحته قدميها المنهكتين تحت أنظار أبنائها المنتفخة أوداجهم بالأموال وبالتاريخ الذي تمدهم به حضرموت ، فما أسباب ذلك كله ؟ إن فهم معضلة القضية الحضرمية وأسباب عجز أبناءها وخور هممهم قد يقدم دروسا في المستقبل قد يولد معها حُلم الدولة الحضرمية المستقلة من جديد ، لكنني في هذه المرحلة أكثر تشاؤما بفرص حدوث ذلك ، وأرجو أن يكون تشاؤمي المفرط وهما . أما أسباب ذلك فإنني سأستعرضه على عجالة إذ أن المقام لا يسمح بغير ذلك . إن فهم هذه الأسباب سيدفعنا أولا للحديث عن المجتمع الحضرمي والقوى الكامنة فيه . إن المجتمع الحضرمي مجتمع طبقي – بشكل واضح – بل إنني أزعم أنه أشد طبقية وعنصرية من كافة المجتمعات العربية التي تعاني من ذلك بدرجة أو بأخرى ، وهناك أفكار عدائية بين كل طبقة وأخرى ، كما أن هناك انعدام للثقة في الطبقات السفلى في هذا المجتمع ، كل هذه الطبقية العدائية خلقت مجتمعا مفككا ظاهره فيه الرحمة وباطنه فيه العذاب – إن صح التعبير – وهذا ما لا يمكن معه خلق قيادة مقبولة وواثقة من نفسها ، كما أن الطبقات التي تعد نفسها في أعلى السُلم الطبقي غير قادرة على القيام بدور فاعل ، وذلك يعود إلى التراكمات الناشئة عن منظومة الفكر الذي آمنت به لقرون والذي استغلته على نطاق واسع للوصول والتشبث بأعلى السُلم الطبقي . هذا المجتمع الذي يتربع على أعلاه طبقة مشلولة سياسيا ، وفي أسفله طبقة مهزومة مترددة غير واثقة من نفسها ولّد ثقافة هزيلة تعبر عن نفسها في كثير من المفردات الشعبية كقولهم " قع ذرة وكل سكر" و " ماحولي" وغير ذلك من الإشارات المعبرة في هذا الصدد . ولإحداث أي تغير إيجابي يجب محاربة الطبقية التي لا تعبر إطلاقا عن الإسلام ، ويجب استعادة الثقافة الإيجابية بشكل أو بآخر . بين هاتين الطبقتين تأتي منظومة القبيلة الحضرمية ، والتي تعرضت لكثير من الضغوط العنيفة خلال نصف القرن الماضي ، وقد نجحت قبل ذلك في إنجاح أول تنظيم فاعل في المجتمع الحضرمي تمثل في جيش البادية الحضرمي ، وهو تنظيم أثّر بشكل خطير في الأحداث ودل على الدور الذي يمكن أن تقوم به القبيلة في حضرموت ، لذا فإن الشيوعيون عندما تمكنوا من حكم حضرموت كان من أهم مشاريعهم إسقاط جيش البادية ومن خلفه كل منظومة القبيلة وإفشال دورها الاجتماعي الفاعل في حضرموت ، ورغم أنهم لم ينجحوا في ذلك إلا أنهم أضعفوا القبيلة الحضرمية ، وساهمت الهجرة الحضرمية في ذلك ، حيث فقدت كثير من القبائل الحضرمية رموزها التقليديين من المقادمة الكبار أصحاب الصوت المسموع ، وجاءت الدولة اليمنية الشمالية القائمة أصلا على القبيلة فأحيت القبيلة كمنظومة اجتماعية ، لكنها في إطار سعيها لإحكام سيطرتها على المجتمع الحضرمي أفرغت هذه المنظومة من قوتها ، وحرصت على أن تتعامل معها على أنها أفخاذ متعددة لا أنها قبيلة واحدة فتعددت القيادات المرتبطة بالمصالح اليمنية ، فضعف الدور العام للقبيلة ، وقد كانت قبائل حضرموت تتفرد بنظام اجتماعي يقوم على ما يسمى ب " الأبو " وهو الشيخ الجامع لكافة أفخاذ القبيلة الكبيرة ، وكان بمقدوره تجميع قوة القبيلة تحت صوت واحد ، وهذا مالم تكن السلطة الشمالية راغبة فيه . لذا سعى المحتل الشمالي إلى تقديم عناصر غير مؤهلة لقيادة هذه القبائل المتفرقة ، مع التخلص المستمر من المقادمة الذين يسبحون بحمد غير المحتل الشمالي . هنا عندما وقعت هذه الأحداث ونشأ هذا الفراغ السياسي والإداري والأمني الخطير لم تستطع القبيلة الحضرمية القيام بدور حازم وملء هذا الفراغ ، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام قوى أخرى للقيام بذلك . وحتى حلف قبائل حضرموت لم يكن سوى نمر من ورق – إن جاز التعبير- وهو الذي لم يستطع التقدم شبرا نحو المكلا عاصمة حضرموت بعد سقوطها على يد أنصار الشريعة ، ورغم أن الكثيرين – وأنا منهم – كانوا يعدون حلف قبائل حضرموت أمل حضرموت ، لكن الأحداث المتتابعة واستمرار ضعف بنيانه الفكري أفقد الكثيرين هذا الأمل ، ومع ذلك لا زال هناك من يراهن على الحصان الهزيل بسبب أنه في المضمار هو الحصان الحضرمي الوحيد . خارج هذه الهلهلة الاجتماعية المقلقة ، تأتي التجمعات المذهبية داخل المجتمع الحضرمي ، وهذا ما سنحاول التطرق له في الجزء الثاني من المقال والذي سينشر لاحقا راجيا أن تتحول هذه القراءة إلى أسئلة تعمق الحديث حول القضية الحضرمية .