في الوقت الذي كان يتوجب عليه البقاء.. رحل! وفي الوقت الذي يتوجب عليهم الرحيل.. مازالوا يعاقبونا ببقائهم!! كان الظرف يستدعي وجوده، وكانت المرحلة تستلزم حضوره، فأصر أعداء الحياة حياة عدن وأهل عدن بالذات على تغييبه بهذه الطريقة الشنيعة. لا غرابة.. فنحن في زمن يندر فيه العظماء ويتكاثر فيه الحقراء تكاثر الذباب، وكأن لديهم طريقتهم الخاصة في التزاوج وانتاج واستنساخ ذواتهم. رحل جعفر، ابن عدن البار.. رحل بعد أن قدم لمدينته في فترة وجيزة وظروف استثنائية مالم يقدمه سواه في ظروف كانت تعد طبيعية أو هكذا يفترض..رحل الرجل ناجحاً معطاءً عظيماً! "وهنا يكمن سر العظمة، في أن نغادر المكان ونحن في قمة نجاحنا. هذا هو الفرق بين عامة الناس.. والرجال الإستثنائيين!" كيف لا؟.. وقد انبرى للمهمة التي كلف بها بكل ثقة، واضطلع بالمسؤولية التي القيت على عاتقه بعزمٍ، وتفانٍ منقع النظير.. مضى ونصب عينيه أن يحقق لأبناء جلدته البؤساء، ما أُمِّل منه، ويمسح سيماء الحزن عن وجه مدينته.. على أمل أن يعيد لها ولأهلها رمق الحياة، ولو حتى عبر صنبور المياه أو ساعة إنارة إضافية.. أن يرسم البهجة في أعين الأبناء والآباء ولو على حائط مدرسة.. نعم.. تكشّم عناء المهمة في ظروف بالغة الدقة والتعقيد، فهجر فنادق الرياض ورفاهيتها حيث مازال يقبع من تسبب لنا في كل هذا البلاء، وجر علينا أصناف الوبال! استبدل براحته حملاً وعناءً لم يكن مرغماً عليه، واستبدل بحياته موتاً دون أن يكون مجبراً عليه!! لذا أراد أن يذهب إلى الموت مكابراً لا مهزوماً ولا مكرهاً.. إنها طريقة العظماء والأبطال في أن يهزموا مسبقاً شيئاً لا يهزم، حتى ولو كان ذلك الشيء هو الموت! يموتون ليخلدوا في قلوبنا وذاكرة الأجيال.. ولتختلط نفحات أسمائهم وذكراهم برائحة الوطن..!! لروح الشهيد/ جعفر محمد سعد.. الرحمة والغفرآن.. والنصر للحق وأهله.. والعزة للسائرون على دروب الحرية والكفاح، حتى انبلاج الصباح..