قناة أمريكية تنشر معلومات جديدة وتؤكد قيام إسرائيل بقصف إيران    شبوة.. جنود محتجون يمنعون مرور ناقلات المشتقات النفطية إلى محافظة مأرب    أمن عدن يُحبط تهريب "سموم بيضاء" ويُنقذ الأرواح!    تظاهرات يمنية حاشدة تضامنا مع غزة وتنديدا بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن    شروط استفزازية تعرقل عودة بث إذاعة وتلفزيون عدن من العاصمة    اليمن تأسف لفشل مجلس الأمن في منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة مميز    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    حالة وفاة واحدة.. اليمن يتجاوز المنخفض الجوي بأقل الخسائر وسط توجيهات ومتابعات حثيثة للرئيس العليمي    تعز.. قوات الجيش تحبط محاولة تسلل حوثية في جبهة عصيفرة شمالي المدينة    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    خطوات هامة نحو تغيير المعادلة في سهل وساحل تهامة في سبيل الاستقلال!!    ايران تنفي تعرضها لأي هجوم وإسرائيل لم تتبنى أي ضربات على طهران    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    برشلونة يسعى للحفاظ على فيليكس    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    اشتباكات قبلية عنيفة عقب جريمة بشعة ارتكبها مواطن بحق عدد من أقاربه جنوبي اليمن    الرد الاسرائيلي على ايران..."كذبة بكذبة"    الجنوب يفكّك مخططا تجسسيا حوثيا.. ضربة جديدة للمليشيات    السعودية تطور منتخب الناشئات بالخبرة الأوروبية    مسيرة الهدم والدمار الإمامية من الجزار وحتى الحوثي (الحلقة الثامنة)    العثور على جثة شاب مرمية على قارعة الطريق بعد استلامه حوالة مالية جنوب غربي اليمن    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    طعن مغترب يمني حتى الموت على أيدي رفاقه في السكن.. والسبب تافه للغاية    استدرجوه من الضالع لسرقة سيارته .. مقتل مواطن على يد عصابة ورمي جثته في صنعاء    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    مركز الإنذار المبكر يحذر من استمرار تأثير المنخفض الجوي    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    إنهم يسيئون لأنفسم ويخذلون شعبهم    طاقة نظيفة.. مستقبل واعد: محطة عدن الشمسية تشعل نور الأمل في هذا الموعد    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دكتور بجامعة عدن يقدم بحثا عن المفاهيم الفرنسية لحقوق الإنسان والحريات العامة ومدى تطبيقها تجاه العرب في أبوظبي
نشر في عدن الغد يوم 27 - 12 - 2015

قدم الأستاذ الدكتورمسعود عمشوش مدير مركز الترجمة بجامعة عدن، الليلة، بحثا علميا عن "المفاهيم الفرنسية لحقوق الإنسان والحريات العامة ومدى تطبيقها تجاه العرب" إلى (ندوة أزمة المفاهيم حول حقوق الأنسان والحريات العامة)، الذي تعقد حاليا في أبوظبي بدولة الامارات العربية المتحدة، ولأهمية البحث ننشر فيما يلي نصه:

المفاهيم الفرنسية لحقوق الإنسان والحريات العامة ومدى تطبيقها تجاه العرب
أ.د/مسعود عمشوش (جامعة عدن):

على الرغم من أن معظم الأسس التي قامت عليها الحضارات القديمة، وكذلك المبادئ التي جاءت بها الأديان السماوية، وفي مقدمتها ديننا الإسلامي الحنيف، تؤكد على ضرورة احترام الحقوق الطبيعية للإنسان وحرياته العامة التي تضمنها له مختلف الأعراف والقوانين، فمن الواضح أن مفاهيم الحقوق والحريات، التي تمّ إقرارها في الدساتير ولوائح المنظمات الدولية، في مرحلة كانت معظم شعوب الشرق والدول النامية تخضع سياسيا وعسكريا لهيمنة الغرب، هي في الحقيقة صناعة غربية شارك الفرنسيون كثيرا في صياغتها وقولبتها وتحويرها وفق تطور معتقداتهم ورؤاهم ومصالحهم الاقتصادية والسياسية.
واليوم يتباهى الفرنسيون بالدور الكبير الذي قاموا به في سبيل ترسيخ مفاهيم حقوق الإنسان والحريات العامة أو حقوق المواطن في العصر الحديث، ويذكِّرون عادة بإسهامات الفيلسوف جان جاك روسو في هذا المجال، ويحرصون دائما على تضمين نصوص من كتابه (العقد الاجتماعي) في مناهج تدريس لغتهم للأجانب، ليؤكدوا أنهم صانعو حقوق الإنسان. وإذا كان من الصعب اليوم إنكار ذلك الدور الفرنسي في بلورة وصياغة مفاهيم حقوق الإنسان والحريات العامة، سيكون من اليسير أيضا إبراز حقيقة أن تلك المفاهيم التي تضمنتها الدساتير والإعلانات الفرنسية قد ظلت في كثير من الأحيان بعيدة عن التطبيق، لا سيما حينما يتعلق الأمر بحقوق العرب في فرنسا نفسها، أو في بعض مناطق الوطن العربي كالجزائر وبلاد الشام.
في الشق الأول من هذا البحث نسعى إلى محاولة تفسير الأزمة الراهنة لمفاهيم الحقوق والحريات العامة من خلال تسليط الضوء قليلا على الظروف التي أحاطت بظهور تلك المفاهيم في فرنسا والغرب بشكل عام، واستبعادها للإسهامات الشرقية عند التنظير لتلك المفاهيم وصياغتها وإقرارها، وكذلك استبعادها للخصوصية الحضارية والعقائدية التي تقع خارج دائرة الحضارة والمصالح الغربية.
وبناء على ما نقدمه في ذلك الشق الأول من البحث، سنحاول في الشق الثاني منه أن نبيّن أن الجانب الأهم من الأزمة التي تمر بها الحقوق والحريات ليست دائما أزمة في المفاهيم المدونة في دساتير الدول الغربية ولوائح المنظمات الدولية، وإنما في التحوير الدائم من قبل الغربيين لتلك المفاهيم عند الممارسة، وذلك بطرق تسمح لهم استخدامها وفق تطور مصالحهم الاقتصادية والسياسية في العالم، إلى درجة أنهم –الغربيين- لا يترددون في جعل حقوق الإنسان وحرياته العامة وسائل لممارسة الابتزاز والضغط على كثير من الدول الصغيرة والكبيرة، في الوقت الذي يسكتون فيه على ما يقومون به هم وما تقوم به ممثلتهم في أرض العرب: اسرائيل.
الشق الأول: المرتكزات الفرنسية لمفاهيم الحقوق والحريات:
أ-الظروف التي هيأت لصدور أول إعلان فرنسي لحقوق الإنسان والمواطن:
من المسلم به اليوم أن الثورة الفرنسية قد وضعت أول وثيقة لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية في الغرب؛ وتلك الوثيقة هي: إعلان حقوق الإنسان والمواطن La Déclaration des droits de l'Homme et du citoyen، الذي ألحقته الجمعية التأسيسية الوطنية الفرنسية في 26 أغسطس1789 بأول دستور جمهوري لفرنسا، وكان هدفه التعريف بالحقوق الفردية والجماعية ليس للفرنسيين فقط بل لمختلف الشعوب.
ولا شك أن تلك الوثيقة جاءت متأثّرة بالأفكار التي روّج لها فلاسفة عصر التنوير في فرنسا أمثال جان جاك روسو (العقد الاجتماعي)، وفولتير وديدرو، ومونتسكيو صاحب (روح القوانين). ومن المعلوم أن الفكر الفرنسي في عصر التنوير قد ركز على مفاهيم المساواة والحرية وحقوق الإنسان. وقد شاعت أفكار (العقد الاجتماعي) في مواجهة الاستبداد الملكي، وبدأ السعي لإيجاد نظام سياسي بديل يقوم على أساس هذا الفكر. ويرى بعض المؤرخين أن الثورة الفرنسية بتمييزها بين حقوق الانسان وحقوق المواطن تقترب كثيرا مما جاء في مقولات الفيلسوف جان جاك روسو في (العقد الاجتماعي) الرامية إلى إيجاد نوعٍ من التوازن بين ما يسميه الحرية الطبيعية للفرد ومقتضيات حياته في المجتمع أي بين الأفراد الآخرين. ويرى عبد السلام السعيدي أن "مفكري الليبرالية مضوا بعيدا بنظرية القانون الطبيعي واتخذوها وسيلة للحد من السلطة المطلقة للملوك الحاكمين". (عبد السلام السعيدي: خطاب حقوق الإنسان بين الليبرالية والماركسية والفكر الإسلامي المعاصر)
ولا شك أيضا في أن الثوار الفرنسيين قد استفادوا قليلا من (إعلان الاستقلال الأمريكي، 26 مايو 1776) و(إعلان فرجينيا للحقوق، 12 يونيو 1776).
ويجمع المؤرخون اليوم على أن الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن قد جاء ليجسد كذلك جملة من الأهداف كانت معظم الشعوب الغربية، في القرن الثامن عشر، تسعى إلى تحقيقها، وعلى رأس تلك الأهداف: قطع الصلة مع الإرث اللاتيني والروماني والكهنوتي والملكي بشكل عام. وكما ذكرنا، مهدت مقولات الفلاسفة للإجراءات الثورية التي، في الحقيقة، لم تتوج حكم الشعب، بل انتقلت بفرنسا من النظام الإقطاعي الملكي إلى النظام الليبرالي الرأسمالي الذي يمجّد قِيَم الفرد ويحميها من قيم المجتمع القديم.
ويتضمن إعلان حقوق الإنسان والمواطن (انظر نصه كاملا في الملحق)، إضافة إلى تقديم مفهوم حقوق الإنسان، تحديدا لمفهوم الحرية وحقوق المواطن، الذي يمكن أن يعادل -كما سنبيّن- مفهوم (الحريات العامة)، أو الحقوق المدنية. ويؤكد الإعلان أن الحاجة للقانون تنبع من "أنه لا حدّ لحقوق الإنسان الواحد غير حقوق الإنسان الثاني"، فبحسب الإعلان: "القانون هو تجسيد للإرادة العامة، ووظيفته ضمان مساواة الحقوق ومنع ما فيه ضرر للهيئة الاجتماعية".
وقد عُدّت هذه الوثيقة مصدر إلهام للكثير من حركات التحرر في مختلف أنحاء العالم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، كما أنها أصبحت مرجعا مهما لواضعي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948.
ب- التعريفات الراهنة لمفهومي حقوق الإنسان والحريات العامة:
يتداخل اليوم مفهوم حقوق الانسان بعض الشيء مع مفهوم الحريات العامة، وذلك حتى من وجهة نظر أساتذة الحقوق. وهناك من يستخدم مصطلحات أخرى مثل الحقوق الأساسية للفرد، والحريات الفردية للإنسان، أو حقوق المواطن كما جاء في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن.
وتُعرَّف حقوق الإنسان اليوم بأنها مجموعة الحقوق التي يمتلكها الفرد لكونه إنسانا، ولأنها لصيقة بطبيعته، وتظل موجودة حتى إن لم تعترف بها السلطة وأنظمتها المختلفة، أو حتى لو تم انتهاكها من قبل السلطة، ولذلك يقع مفهوم حقوق الإنسان خارج وفوق القانون والأنظمة التي وضعتها السلطة. ويتضمن مفهوم حقوق الإنسان كل ما تحتاجه الطبيعة الإنسانية، من أمن مادي وحماية صحية وتعليم، وهو مفهوم قابل للتطور والتوسع.
أما الحرية فتُعرَّف بأنها قدرة الفرد على التصرف بمحض إرادته، وقدرته على اختيار تصرفاته الشخصية، وممارسة نشاطاته دون عوائق أو إكراه. وبالنسبة لمفهوم (الحريات العامة) فقد اصطلح القانونيون اليوم على أنه: مجموعة من الحقوق والإمكانيات المعطاة للفرد، والتي تفترض تدخل السلطات العامة لضمان الحصول عليها. وعليه فالحريات العامة هي قدرة الفرد على التصرف كما يشاء في إطار قوانين السلطة وأنظمتها النافذة.
ويظهر مفهوم (الحريات العامة) بصفة الجمع، وتلصق به صفة (عامة) لأن هذا النوع من الحرية يفترض تدخل السلطة لضمانه، وتبيّن صفة العامة الإقرار والاعتراف بأن هذا النوع من الحريات مشترك بين الناس جميعا، وينبغي تنظيمه وضمانه بموجب قواعد قانونية، وهي ليست طبيعية إذ أن الفرد لا يعيش بمفرده بمعزل عن الأفراد الآخرين بل في مجتمع. وإذا كان للفرد الحرية (الشخصية) في إنفاق ماله كما يشاء فهو لا يستطيع أن يسوق عربته إلا وفق قانون المرور.
وعليه فالحريات العامة تحددها الدولة بموجب نصوص قانونية وتحميها بموجب هذه النصوص، والعلاقة بين الحريات العامة والدولة متينة ولا يمكن الحديث عن الحريات العامة إلاّ في إطار نظام قانوني محدد. وهذا ما يميّز الحريات العامة (أو القانونية) عن حقوق الإنسان، التي تُعد مجموعة الحقوق الطبيعية التي يمتلكها الإنسان من يوم مولده وتظل موجودة حتى إذا لم يتم الاعتراف بها. إذن فحقوق الإنسان طبيعية بينما الحريات العامة وليدة النظام والقانون.
ج- إلى أي مدى يتضمن الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 بذرة التمييز بين مفهومي حقوق الإنسان والحريات العامة؟
إذا ما أمعننا النظر في مواد الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن نتبيّن أن المادتين الأولى والثانية منه اقتبستا من (العقد الاجتماعي) لجان جاك روسو؛ فهو في المادة الأولى ينص على أن "الناس يولدون ويظلون أحرارا متساوين في الحقوق، والامتيازات الاجتماعية لا ترتكز إلا على أساس المنفعة العامة". وتنص المادة الثانية منه على أن: "هدف كل تجمع سياسي يكمن في الحفاظ على حقوق الإنسان الطبيعية التي لا يمكن المساس بها. وهذه الحقوق هي: الحرية، والامتلاك، والأمن، ومقاومة الاستبداد".
اما الحرية، فقد جاء تعريفها في المادة الرابعة من الإعلان على النحو الآتي: "الحرية هي قدرة المرء على القيام بكل ما لا يلحق ضررا بالآخرين". ومن الواضح أن الإعلان في تعريفه هذا للحرية كان يرمي إلى خلق نوع من التوازن بين الحقوق الطبيعية للإنسان الفرد وبين إرادة الأمة المجسدة للنظام الذي يقنن حرية الأنسان المواطن، ويجعل من مفهوم الحرية مرادفا لمفهوم الحريات العامة، لاسيما إنه قد عرف (النظام) في مادته الثانية عشرة بأن "تجسيد لإرادة الأمة"
ويتجلى هذا المنحى في معظم مواد الإعلان وتحديدا في نهاياتها التي تؤكد على إن كل حق من حقوق الانسان ينبغي ألا يتناقض مع ما ورد في القانون، أي مع إرادة الأمة. و يبرهن نص المواد التاسعة والعاشرة والحادية عشرة على ذلك:
"المادة التاسعة: المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وإذا استدعت الضرورة توقيفه فإن كل قسوة غير ضرورية لحجزه يجب قمعها بقسوة وفقا للقانون.
المادة العاشرة: لا يجوز التعرض لأي إنسان بسبب آرائه، حتى الدينية، ما دام التعبير عنها لا يعكر الأمن العام المبني على القانون.
المادة 11: حرية نشر الأفكار والآراء حق من أهم حقوق الإنسان، لذلك فكل مواطن يستطيع الكلام، والطباعة بحرية، وتتم مساءلته في حالة إساءته استعمال هذه الحرية المنصوص عليها في القانون".
وعليه يمكننا القول إن الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن، يتضمن في نصوص معظم مواده ميلاً إلى التمييز بين حقوق الإنسان وحقوق المواطن أي الحريات العامة، لكنه –في اعتقادنا-يعطي الأولوية للحريات العامة بما أنه يسعى إلى إخضاع كل حقوق الإنسان لإرادة الأمة، أي القانون.
د-هل يمكن أن يأخذ محتوى مفهوم حقوق الإنسان بعدا عالميا؟
لا يمكن أن تكون لمفهوم الحريات العامة أبعاد عالمية بما أن تلك الحريات يتم تحديدها وضمانها وفق لما تنص عليه القوانين الخاصة لكل بلد على حده. بالمقابل تعد المبادئ التي يشملها مفهوم حقوق الإنسان عالمية، وتتجاوز الحدود السياسية والجغرافية واللغوية وحتى الدينية والثقافية، ويتمتع بها الناس في مختلف أنحاء المعمورة. وقد أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1948 على ذلك.
ومن المؤكد أن إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي صدر في فرنسا عقب قيام الثورة مباشرة عام 1789، قد أثر كثيرا في معظم من التصريحات والإعلانات الخاصة بحقوق الإنسان والحريات العامة التي ظهرت بعده، بل أن عددا من مواده أخذت طريقها في دساتير كثير من الدول في العالم، ونجد صداه في القوانين المدنية لتلك الدول.
ومع ذلك، لن يكون من الصعب إثبات أن الصياغة الفرنسية الأولى لمفاهيم الحقوق والحريات، وكذلك التعديلات والإضافات التي أدخلت عليها طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت في المقام الأول إفرازا للظروف الخاصة التي أحاطت بظهورها في فرنسا والغرب بشكل عام، وأنها قد استبعدت مختلف الخصوصيات الحضارية والعقائدية التي تقع خارج دائرة الحضارة والمصالح الغربية. لذلك نسلم أنه، وفق ما جاء في التعريفات التي قدمناها لمفهومي حقوق الإنسان والحريات العامة، يُفترض أن تكون حقوق الإنسان ذات أبعاد عالمية أو دولية، وبالتالي، من الطبيعي أن تبرز منظمات وهيئات دولية تجعل من نفسها ضامنا لاحترام حقوق الإنسان في مختلف بقاع العام.
وإذا كانت حقوق الإنسان يمكن أن تكون ذات أبعاد عالمية فمحتوى مفهوم الحريات العامة، المرتبطة بالقوانين التي تضمنها، يمكن أن يتغير وفق القوانين التي تضعها كل دولة لتحديد تلك الحريات وطرق حمايتها.
وإذا كان محمد عابد الجابري يرى أن "عملية التأصيل الثقافي لحقوق الإنسان في فكرنا العربي المعاصر يجب أن تنصرف إلى إبراز عالمية حقوق الإنسان في كل من الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية، أعني كونها تقوم على أسس فلسفية واحدة"، (محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994، ص 143)، فمعظم ممثلي الفكر الإسلامي المعاصر يخالفون ما يذهب إليه الجابري بتماثل الخطابين الغربي والإسلامي فيما يتعلق بحقوق الانسان. ويرى بعض أولئك المفكرين أن المواثيق والإعلانات التي صدرت في أوروبا وأمريكا قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 كانت موجهة أساسا لإنسان تلك المجتمعات الغربية، وفي رأيهم حتى ذلك الإعلان العالمي حقوق الإنسان لم يأخذ بعين الاعتبار الاختلاف بين الثقافات والحضارات في العالم. لذلك ف"عالمية حقوق الانسان"، في نظرهم، "ليست سوى وجه من وجوه التمركز الحضاري الغربي الذي يجسد هيمنة المركز على الأطراف".
وقد تعددت الانتقادات التي وجهها ممثلو الفكر الإسلامي المعاصر لخطاب حقوق الإنسان كما أعلن عنها أمميا ويروج لها عالميا من قبل الغرب والهيئات والمنظمات الدولية كذلك. وقد قام الأستاذ عبد السلام السعيدي، في بحث له حول (خطاب حقوق الإنسان بين الليبرالية والماركسية والفكر الإسلامي المعاصر)، بتلخيصها بشكل تفصيلي. ومن أهم ما جاء فيه: "إن مفهوم حقوق الإنسان غربي النشأة والتطور، أما مضمونه فهو فكري وفقهي وقانوني وفلسفي تضمنته كل الفلسفات والعقائد، ولو بنوع من الاختلاف مثل العقيدة الإسلامية". ويُضمّن الباحث ملخصه بعض البدائل التي وضعها المفكرون المسلمون لمفهوم حقوق الإنسان (الغربي)، قائلا: "يرى بعض من يتكلم باسم العقيدة الإسلامية أنه من الواجب الشرعي استبدال مفهوم حقوق الإنسان بمفهوم بديل هو "الكرامة الإنسانية" لأن هذا المفهوم الأخير مأخوذ من داخل المنظومة الثقافية الإسلامية وحيا من قوله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير من خلقنا تفضيلا" (سورة الإسراء، الآية 7). ويرى مفكرون آخرون أن البديل الإسلامي الأصيل هو مفهوم "ضرورات الإنسان" وليس حقوقه. ويبدو لنا أن محمد عمارة، الذي يفرق بين مفهوم الحقوق ومفهوم الضرورات، يجعل من هذا الأخير رديفا لمفهوم حقوق الإنسان الغربي، إذ يقول: "إن الحقوق قد يتنازل عنها الإنسان أو قد لا يطلبها، بينما الضرورات فلا سبيل إلى حياة الإنسان بدونها ويستحيل العيش بفقدانها".
وفي رأينا يمكن التسليم بأن الصياغة الفرنسية الأولى لمفاهيم الحقوق والحريات كانت إفرازا للظروف الخاصة التي أحاطت بظهورها في فرنسا والغرب بشكل عام، وإنها قد استبعدت في الغالب الخصوصيات الحضارية والعقائدية التي تقع خارج دائرة الحضارة والمصالح الغربية.
الشق الثاني
تجسيد فرنسا لمبدئي حرية الراي والتعبير وحرية الدين والمعتقد في تعاملها مع العرب
طوال القرن التاسع عشر والقرن العشرين ظلت فرنسا، رسميا، حريصة على أن يكون هناك حد أدنى من الانسجام بين ما تتضمنه دساتيرها وإعلاناتها من مبادئ وقوانين تؤكد تمسكها باحترام حقوق الإنسان وحرياته العامة، وبين ما تفعله على أرض الواقع، ولتتمكن من ذلك اضطرت إلى تحديث دساتيرها وأنظمتها وإعلاناتها. وقد شهد القرن العشرين تطورا ملموسا للقوانين والنظم الفرنسية المرتبطة بالحريات العامة على وجه الخصوص، إذ تركزت معظم تلك التعديلات والإضافات على كل ما يتعلق بحرية الراي والتعبير من جهة، وحرية العقيدة أو العبادة والدين من جهة أخرى.
ومن المعلوم أن حرية الدين والمعتقد قد أدرجت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948(المادة 18)، وتشمل هذه الحرية، بالإضافة إلى حرية التعبد، حرية اعتناق أي دين أو معتقد، أو عدم اعتناق أي منهما أو تغييرهما أو التخلي عنهما.
ومنذ منتصف القرن الماضي شاركت فرنسا في ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان ذات الطابع العالمي من خلال الهيئات الدولية التي أسست حينذاك، وأهمها: هيئة الأمم المتحدة. ومثل معظم الدول الغربية الأخرى، انصبّ جل اهتمام فرنسا على الدفاع عن مبدأي "حرية الدين والمعتقد" و"حرية الرأي والتعبير". والسؤال الذي نطرحه هنا: هل التزمت فرنسا نفسها دائما بتطبيق هذين المبدأين وكل ما جاء في دساتيرها وإعلاناتها الخاصة بحقوق الانسان والحريات العامة، بشكل موضوعي وغير متحيّز عند تعاملها مع العرب؟
فيما يتعلق بحرية العقيدة، تماشيا مع ما جاء في إعلان عام 1789 الذي- كما ذكرنا - جاء نتيجة لسعي فرنسا إلى خلق قطيعة مع الكنيسة وقِيَم النظام الملكي القديم، تذكّر فرنسا بأن حقوق الإنسان هدفها حماية الأفراد وليس الأنظمة الفكرية بما فيها الديانات والرسل، التي لا يمكن أن تمنح الحقوق نفسها التي تعطى للإنسان المواطن. لهذا، كيلا تعطي للكنيسة والمؤسسات الدينة الأخرى صبغة قانونية ظلت الجمهورية الفرنسية تعارض وبشدة تضمين دستورها أو الوثائق الحقوقية التي تصادق عليها مفهوم "احترام الديانات". فمن وجهة نظر الفرنسيين يمكن أن يُسهّل ذلك الأمر عودة السلطة والرقابة الدينية، ويفرض بعض القيود على الدفاع عن الأقليات الدينية والصحفيين، ويعرقل بالتالي حرية التعبير.
وكما هو الحال في القانون الدولي، لا يُعترف القانون الفرنسي بمفهوم (التجديف) أو تشويه سمعة الأديان ورموزها. ومن هذا المنطلق لم تتخذ السلطات الفرنسية أي إجراء ضد ما أقدمت عليه صحيفة (شارلي ايبدو)، حينما قامت بنشر صور مسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
بالمقابل، صدر في الأول من يوليو من عام 1972 قانون فرنسي يجرّم أي "دعوة إلى الحقد والتمييز والعنف لأسباب قائمة على أساس الدين أو العرق أو الانتماء العرقي أو الوطني". بالإضافة إلى ذلك، صدر في 13 يوليو من عام 1990، قانون فرنسي عُرف باسم (قانون غايسو)، وينص على "معاقبة أي اعتداء عنصري أو معاد للسامية أو يدعو لكراهية الأجانب". ويبدو أن سبب ذلك يعود إلى تنامي تأثير اللوبي اليهودي في فرنسا بشكل خاص والغرب بشكل عام. والغريب أن فرنسا، التي تجرّم أي صحفي وأي فرد يبدي رأيا خاصا به حول (الهولكوست)، والتي لم تكف عن إدانة قمع الصين للأقليات البوذية في إقليم التِّبت، لم تبد أي استنكار تجاه الجرائم التي ترتكب في حق المسلمين في بورما.
ولا شك أن طريقة تعامل فرنسا قانونيا مع بعض رموز الدين الإسلامي، وهو دين عدد كبير من الفرنسيين الذين ينحدرون من أصل عربي، وكذلك الأحداث التي أعقبت الاعتداء على صحيفة (شارلي إيبدو) في باريس في يناير 2015 فرنسا، أدت إلى زيادة ظاهرة (الإسلاموفوبيا) في فرنسا. أما عقب سلسلة أعمال القتل التي شهدتها باريس في منتصف شهر أكتوبر 2015، فقد اعتمد الرئيس الفرنسي هولاند معظم طروحات اليمين الفرنسي المتطرف الداعية إلى وقف (أسلمة فرنسا)، واتخاذ إجراءات خاصة في التعامل مع الفرنسيين المنحدرين من أصول عربية، وهو ما يعني تعطيل بعض مبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة التي تتبناها فرنسا؛ لاسيما مبدأ المساواة وحرية العقيدة.
ولتبيان أن فرنسا (تكيل بمكيالين) عند تعاملها مع العرب المسلمين اتهم الكاتب الشاعر زكي بيضون فرنسا بأنها تطبق شعار (حرية، مساواة، إخاء بمعايير إسرائيلية). وكتب في مقال له يحمل العنوان نفسه "هذا الشعار يفترض أن جميع المواطنين الفرنسيين يولدون أحراراً ومتساوين في الحقوق والواجبات ويحثهم على معاملة بعضهم البعض بروح أخوية. لكن لم يسبق أن نجح أي مجتمع في ردم الهوة الأفلاطونية بين واقعه ومُثُله، والمجتمع الفرنسي بالتأكيد ليس استثناءً. نتبين ذلك بوضوح حين نعاين التمييز الفاضح الذي ظهر في تعامل الدولة الفرنسية مع قضيتي الجندي الإسرائيلي فرنسي الجنسية جلعاد شاليط والأسير الفرنسي الفلسطيني صلاح الحموري. لا داعي هنا لا للتحليل ولا للمحاجّة، الوقائع وحدها تكفي. فالحموري مدني وتلميذ في علم الاجتماع اعتقلته السلطات الإسرائيلية بتهمة "النية" باغتيال الحاخام عوفاديا يوسف، زعيم حزب شاس الديني المتطرف. وشاليط جندي في جيش احتلال لديه سجل حافل بجرائم الحرب أسرته فصائل حماس وهو يقوم بمهامه في الإشراف على حصار غزة الذي يضرب عرض الحائط بكل الشرائع الدولية. مثل الحموري المدني أمام محكمة عسكرية لم تقدم دليلاً على نيته المزعومة غير اعترافه تحت الضغط والتهديد بواقعة أنه مرّ مع رفيق له بقرب بيت "المحروس". وأساساً ما السبيل لإثبات نية المرء إلا بقراءة أفكاره؟! (بسبب هذا العائق المبدئي، تحاسب قوانين الدول الديمقراطية الناس على أفعالهم وليس على نواياهم). الواقع أنه، وبعد ثلاث سنوات من الاعتقال التعسفي دون دليل أو محاكمة، اضطر الحموري إلى سماع نصيحة محاميته والاعتراف بالواقعة المزعومة أمام المحكمة العسكرية كي ينال حكماً "مخففاً" بسبعة أعوام بدلاً من أربعة عشر عاماً. إثر أسر شاليط، صرح رئيس الجمهورية الفرنسية نيكولا ساركوزي "جلعاد شاليط خُطف. شاليط هو فرنسي إسرائيلي. فعل خطفه موجه ضد فرنسا"، وأقامت الحكومة الفرنسية الدنيا وأقعدتها ولم توفر جهداً ديبلوماسياً أو سياسياً في سبيل "تحريره". أما في حالة الحموري، فرئيس الجمهورية تذرّع بأنه يرفض التدخل في "مسار مسألة قانونية" معبراً عن ثقته بالعدالة الإسرائيلية، ونسي تصريحاته النارية والضغوط العلنية التي مارسها على الحكومة المكسيكية في غضون محاكمة الفرنسية فلورانس كاسيز في المكسيك، مع أن هذه الأخيرة مثلت أمام محكمة مدنية. استقبل ساركوزي عائلة شاليط الذي كُرّم كمواطن شرف لمدينة باريس، في حين رفض استقبال عائلة الحموري". (العربي الجديد، عدد 20 سبتمبر 2015)
إضافة إلى ذلك، من المعلوم أن فرنسا قد أصبحت، بعيد قيام ثورتها، من أكبر الدول الطامعة إلى ممارسة الاستعمار. ومن الصعب القول إن جميع ممارسات فرنسا في المناطق العربية التي استعمرتها تقع في إطار احترام مبادئ حقوق الإنسان والمواطن أو الحريات العامة؛ فقبل رحيلها من سوريا كان عليها أن تقصف دمشق وتحرقها. وكان على الجزائريين أن يضحوا بمليون شهيد لكي يستعيدوا حقهم في امتلاك أرضهم.
وعليه يمكن القول إن الإعلانات الفرنسية وكل ما يتعلق بحقوق الإنسان والحريات العامة ظل في بعض الأحيان حبر على ورق ولم يجد طريقه إلى التنفيذ. وسبق إن أكد روجيه غارودي أن "دستور فرنسا لعام 1793 وإن قرر مبدأ الاقتراع العام، إلا أنه لم يطبق". ويمكن أن نضيف هنا أن مناداة الفيلسوف الفرنسي فولتير بحرية التعبير لم تمنعه من شراء أسهم في شركات المتاجرة بالعبيد.
الخاتمة
لقد أصبحت مفاهيم حقوق الانسان والحريات العامة اليوم، رغم ما يعتريها من خلط ولبس، الشغل الشاغل لعدد كبير من المنظمات والمحاكم والأطر الدولية التي يهيمن عليها الغرب، ويوظفها في كثير من الأحيان كوسائل ضغط ليس على بعض الدول الصغيرة فحسب، بل كذلك على الصين وروسيا. وفي اعتقادنا لا تكمن الأزمة الراهنة لحقوق الإنسان والحريات العامة في بعدها الإبيستومولجي المفهومي، بل في الهوة الكبيرة بين نصوص الدساتير والأنظمة واللوائح التي تتضمن تلك الحقوق والحريات وبين طرق ممارستها وتطبيقها من قبل الدول الكبيرة والصغيرة.
فحتى إن سلمنا بصحة ما تضمنته دساتير وأنظمة الدول الغربية من تشريعات تؤكد حرصها على احترم حقوق الإنسان وحرياته العامة فالممارسة والواقع يبرهنان باستمرار أن تلك الدول، ومنها فرنسا، رغم ما تملكه من وسائل حديثة ومتطورة و(ناعمة) لمكافحة مختلف أنوع الجريمة، لا تتردد أبدا في تعطيل تلك الحقوق والحريات والأنظمة التي وضعتها لحمايتها، وبوسائل مختلفة، لن يكون أجملها اللجوء إلى إعلان حالة الطوارئ، أي (حالة اللاقانون)، ولفترات طويلة.
ولا شك أن التطبيق المزدوج والمتحيّز لنصوص حقوق الإنسان والحريات العامة من قبل فرنسا يسلب تلك النصوص مصداقيتها، ويجعلها مجرد أدوات إيديولوجية. لكن ذلك لا يلغي حاجتنا لتلك النصوص التي ينبغي أن تظل قائمة بأبعادها العالمية بهدف الحفاظ على السلم المحلي والعالمي. فمن المؤكد أن "التناقض بين الخطاب والممارسة، وبين الشعار والواقع في التجربة الأوروبية –كما يقول محمد سبيلا- لا يلغي البعد الكوني لمفهوم حقوق الإنسان". (محمد سبيلا، حقوق الإنسان والديمقراطية، سلسلة شراع، ص24-25)
ملحق: ترجمة نص إعلان حقوق الانسان والمواطن لعام 1789
إن ممثلي الشعب الفرنسي، المكونين للجمعية الوطنية، إذ يؤكدون أن الجهل بحقوق الإنسان أو نسيانها أو ازدرائها هي وحدها أسباب شقاء المجتمع، وفساد الحكومات، فقد عقدوا العزم على عرض حقوق الإنسان الطبيعية المقدسة، التي لا يمكن التنازل عنها، وذلك ضمن إعلان رسمي يكون متاحا وحاضرا بصورة دائمة أمام أعضاء الجسم الاجتماعي، مذكرا إياهم باستمرار بحقوقهم وواجباتهم، ويمكنهم من مقارنة أعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية – في كل لحظة مع هدف كل مؤسسة سياسية، فتكون بذلك أكثر احتراما لها .فمن أجل أن ترتكز مطالب المواطنين من الآن وصاعدا على مبادئ بسيطة وغير متنازع بشأنها، وتتمحور دائما حول الحفاظ على الدستور وسعادة الجميع، وبناء عليه فإنّ الجمعية الوطنية تقرر وتعلن، في حضرة الخالق وتحت رعايته، حقوق الإنسان والمواطن الأتية:
المادة الأولى: يولد الناس ويظلون أحرارا متساوين في الحقوق، والامتيازات الاجتماعية لا ترتكز إلا على أساس المنفعة العامة.
المادة الثانية: هدف كل تجمع سياسي يكمن في الحفاظ على حقوق الإنسان الطبيعية التي لا يمكن المساس بها. وهذه الحقوق هي: الحرية، والامتلاك، والأمن، ومقاومة الاستبداد.
المادة الثالثة: الأمة هي مصدر كل السلطات، وما من جماعة أو فرد يمكنه ممارسة أي سلطة لا تصدر صراحة عن الأمة.
المادة الرابعة: كل الناس أحرار، والحرية هي قدرة المرء على القيام بكل ما لا يلحق ضررا بالآخرين: وهكذا فإن لا حدود لممارسة الحقوق الطبيعية لأي إنسان إلا تلك التي تؤمن للأعضاء الآخرين للمجتمع التمتع بهذه الحقوق نفسها. وهذه الحدود لا يمكن تحديدها إلا بقانون.
المادة الخامسة: ليس للقانون الحق في منع عمل سوى الأفعال الضارة بالمجتمع، وكل ما لا يحرمه القانون لا يمكن منعه، ولا يمكن إجبار أحد على فعل ما لا يأمر به القانون.
المادة السادسة: القانون تجسيد لإرادة الأمة. ولكل المواطنين الحق في أن يسهموا مباشرة أو بواسطة ممثليهم في صياغته. ويجب أن يكون القانون واحدا للجميع في حالتي الحماية والعقاب، وبما أن الجميع متساوون أمام القانون، فلكل الحق شغل المناصب والوظائف العامة، كل حسب كفاءته ودون أي تمييز آخر سوى المرتكز على فضائله ومعارفه.
المادة السابعة: لا يمكن اتهام أي إنسان أو توقيفه أو اعتقاله إلا في الحالات المحددة بالقانون، ووفقا للإجراءات المنصوص عليها فيه، وتتم معاقبة كل من ينفذ الأوامر بطريقة اعتباطية، أو يدفع إليها أو يتوسلّها. ويجب على كل مواطن يتم استدعاؤه وفق القانون أن يخضع فورا، ويُعد مذنبا إذا قاوم أو امتنع عن الطاعة.
المادة الثامنة: يجب ألا يمارس القانون إلا العقوبات الضرورية اللازمة، ولا يمكن معاقبة أي إنسان إلا وفقا لأحكام القانون الساري والصادر في وقت سابق لوقوع الجريمة، والمطبق بصورة قانونية.
المادة التاسعة: المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وإذا استدعت الضرورة توقيفه فإن كل قسوة غير ضرورية لحجزه يجب قمعها بقسوة وفقا للقانون.
المادة العاشرة: لا يجوز التعرض لأي إنسان بسبب آرائه، حتى الدينية، ما دام التعبير عنها لا يعكر الأمن العام المبني على القانون.
المادة 11: حرية نشر الأفكار والآراء حق من أهم حقوق الإنسان، لذلك فكل مواطن يستطيع الكلام، والطباعة بحرية، وتتم مساءلته في حالة إساءته استعمال هذه الحرية المنصوص عليها في القانون.
المادة 12: يستدعي ضمان حقوق الإنسان والمواطن وجود قوة عامة، وتُشكل هذه القوة للسهر على مصالح الجميع، وليس على مصلحة أولئك الذين أوكلت إليهم تلك القوة.
المادة 13: لتأمين الإنفاق العام ومصاريف الإدارة تُفرَض ضريبة عامة على جميع المواطنين بالتساوي، وفق إمكانات كل واحد منهم.
المادة 14: للمواطنين الحق في أن يراقبوا بأنفسهم أو بواسطة ممثليهم مدخلات الضريبة العامة، ومتابعة طرق إنفاقها، وتحديد نسبتها وأسسها وجدولتها الزمنية.
المادة 15: للهيئة الاجتماعية الحق في محاسبة كل موظف في القطاع العام في كل ما يتعلق بإدارته.
المادة 16: كل مجتمع لا تكون فيها ضمانة الحقوق مؤمّنة، وفصل السلطات ليس محددا، هو مجتمع غير دستوري.
المادة 17: لما كانت المُلْكية حقا مصونا ومقدسا، فلا يمكن نزعها من أحد إلا عندما تقتضي ذلك الضرورة العامة المثبتة قانونا بصورة واضحة، وبشرط التعويض العادل لمن تنزع عنه ملكيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.