اليوم عيد ميلادي ال 28 ..أردت أن أحتفل به بصمت ولوحدي وكما ينبغي تماما وبعيدا عن صراخ الواقع حولي وداخلي ..زرتُ مدرستي الإبتدائية في الحوطة على أيامنا كنا نسميها مدرسة الشهيد (المجعلي) تقع في حارة سوق السمك نسميها ( سوق الصيد) أذكر أيام طفولتي الأولى كان الطريق الذي أقطعه من حارتنا ( الجامع) الى المدرسة هو الطريق الخالد في الذاكرة والمكون الأول والأعمق لشخصيتي ..على امتداده أزقة وقصص ومغامرات امتدت منذ الصف الأول حتى الثانوية , تغيرت المدرسة ولم يتغير الطريق ولم تتغير بعد الطفلة بداخلي ..! بحثت في سور المدرسة عن نقش قديم لم أجده ,,تغير السور تماما لكني ذكرياتي لم تزل عالقة في تلك الحارة ,,عُجنت بترابها , بتفاصيل أغلب بيوتها التي لم تتغير ..في وجه صاحب (شعر البنات) الذي كان ينتظرنا عند باب المدرسة ,,ريته اليوم عجوزا يمشي بصعوبة ..نظرت الى قدميه لم تزل متسخة ,,أغمضت عيناي وتذكرت تلك الأيام الجميلة ..أكملت طريقي ,,ضاقت الجدران بين البيوت لم تعد كما قبل نجري فيها صغيرات ..مشاغبات أذكر أنني كنت مع شلة شغلت الدنيا وأزعجتها ..تلك البراءة حتى في الإزعاج لم يزل مدرسونا القدامى يتذكروها لا بل كما قالت لي إحداهن مرة ..نادمون على عدم إحتضانكم بحنان وبمعاملة حسنة , كل الأجيال التي لحقتكم كانت بائسة حقا , نتذكركم بحسرة وكأنكم كنتم آخر جيل محترم فعلا . تذكرت بكلماتها هذه فيلم ( آخر الرجال المحترمين) وقصصت لها قصته عن الأستاذ فرغاني (نور الشريف) الذي كان يريد الواقع أن يمشي على خلق وبالمسطرة والقلم لكن قلبه انفطر لفداحة الفرق بين المبادىء والأخلاق التي يعلمها تلاميذه وبين مجتمعاتهم التي يعيشون فيها ..المهم ضحكت طويلا معها ومضيت . بقت رغبة زيارة مدرستي تلك تلح علي وبشدة وانتظرت ( اليوم) يوم ميلادي لأهب نفسي هدية مميزة ..أطلقت العنان لقدماي تدور بي في تلك الحارة , ألقت بي في أحضان مُدرستي القديمة ,,بكينا لا أدري من بدأ البكاء أولا ! لكنها المرة الأولى التي أراها مابعد الحرب .. احتضنتي طويلا , أخبرتني كم هي فخورة بي , أخبرتها أن طفلتها الصغيرة في داخلي لم تكبر رغم كل هذه السنين الصعبة التي مرت ..شربنا الشاي , ضحكنا , دعتني لمشاهدة آثار الحرب في منزلها المتواضع , أخبرتني قصتها في النزوح .. قلت لها أني سأكتب عنها يوما ما وسأتي لها بما كتبت لتقرأه . مشيت آخر زقاق قبل خروجي من تلك الحارة ..ضاقت روحي عند عبوره ..( الباب الأزرق) الذي يقف دوما على يساري ..ندخله دون استئذان ..نأكل ونشرب مع أهله ..البيت الذي لابد أن نزوره قبل دخول المدرسة وبعد خروجها ..تلك الزيارة كانت فرضا بالنسبة لنا كل يوم ولسنوات الدراسة الطويلة تلك ..! لأول مرة عصر اليوم أمر بجانبه دون الدخول إليه , لا أجرؤ ذلك ..إن دخلته لن أرى صديقتي فيه ..ماتت في الحرب دون أن نودعها , تفرقت بنا السبل كلا منا هرب الى البعيد نازحا ..وماتت هي وحيدة متألمة دون صديقاتها حولها ,, دون أن تقول لنا (باي) بصوتها المميز وابتسامتها الدافئة .. ارتكبت حماقة ,, ربما نعم .. وربما لا ..لابد من الصدمة لتفيق منذ أن انتهت الحرب في لحج وأنا اتحاشى المشي لتلك الحارة حتى لا أمر بذلك الباب الأزرق واصطدم بكل ذكرياته الخانقة .. مررتُ اليوم ..ولم استطع دخول البيت ولربما لو مررتُ في المرة القادة سأتمكن من فعلها ..ولربما ايضا لا أتمكن الا في العام القادم ..أكبر سنة أزداد ثباتا على هذه الأرض الرخوة , يتفلت أصدقاء الطفولة من بين أصابعي ,,يتساقطون كذكرياتي الملقاة على الأرض , ..عصارة السنوات الصعبة هي ( أنت ) الأن بكل مافيك لتبقى الذكريات رغم ( ألمها ) لكنها الأغلى ورغم ضعفي أمامها لكنها هي وحدها من تمدني الأن بالقوة والشجاعة للحياة أمام كل هذا الموت المحيط !