يدرك المستبدون خطر المعارضة الحقيقة اذا ما أتيح لها أن تتنفس من غير الأكسجين المسموح بتمريره لها من داخل براميل الهواء المعالج المخزنة في قيعان القصور الجمهورية والملكية والمشيخية .. وكان الرئيس السابق علي عبدالله صالح سباقا - كعادته - في استكناه خطورة أن تنمو معارضة حقيقية بحيادية تامة عن موجهات السلطة فتعيش في ظروف تسمح لها بأن تقدم مشروع بديل يصلح للحلول محل النظام العتيد الذي مثلته حقبة صالح الموصوفة في عداد الأنظمة المعمرة في جنوب الجزيرة العربية .... لذلك مارس الرئيس هوايته المفضلة في اختراق الانساق المنيعة واستطاع أن يحول المعارضة اليمنية إلى نظام مخترق يملك فيه نقاط تأثير قادرة على الحيلولة دون اجتماع المعارضة اليمنية على كلمة سواء تؤسس لجبهة عريضة تملك قابلية التطور إلى عمل سياسي فعال يشكل خطرا على نظام الرئيس صالح ؛ وحينما ولدت معارضة حقيقية وجبهة تتجاوز حيل النظام الذي داوم باساليبه على افراغها من كل قيمة وجعلها في تأثير " حزب كنبه " كانت الأمور تعني الصراع الى نقطة اللاعودة الحقيقية وبمعنى آخر تبين للرئيس السابق أن قواعد المناورة مع أحزاب اللقاء المشترك أصبحت حربا خالية من إجراءات ضمان السلامة ؛ ووصلت نقاط الاشتباك بين الطرفين إلى درجة استهداف مباشر لكل العملية السياسية التي أصبح المشترك جزءا منها ؛ وحتى في بعض حلقات الحرب استطاع الرئيس علي عبدالله صالح أن يحتفظ ببعض آليات المعارضة التي احتلها فيما سبق على شاكلة أحزاب التحالف الوطني ؛ بل واستعمل كثيرا من أدوات المعارضة الطبيعية كمتارس لحماية النظام في 11 فبراير 2011م كما فعل في اعتصامات ميدان التحرير والحشود الأسبوعية في ميدان السبعين عقب كل صلاة جمعة على وجه التقريب ؛ لذلك يمكن تسمية أسلوب الرئيس السابق في احتلال المعارضة باسلوب سرقة أدوات المعارضة الفعالة .. ثم جاء الحوثيون فساروا على نهج الرئيس السابق في الإيمان بضرورة تدجين المعارضة ولكن بصورة مبتكرة حينما ابتدعوا أسلوبا غير مسبوق يجعل من المعارضة حاكما للنظام ؛ نعم طريقة جديدة في اليمن تقوم على خلق نظام حاكم يخضع لهيمنة المعارضة ؛ وكان هذا الأسلوب مفيدا لأنه يقوم على إيمان عميق بقدرات المعارضة الجبارة التي تعني الجماهيرية والشعبية والقرب من تطويع امزجة المحكومين ؛ كان أسلوبا جديدا في اليمن لكنه كان محاكاة لأسلوب قديم يمارسه حزب الله في لبنان ؛ فهناك سمحت الظروف لحزب الله بأن يجري دورة طبيعية كاملة لرؤيته في ابتزاز الحكم عبر المعارضة ؛ تلك الطريقة التي أتاحت له السيطرة على السلطة في لبنان بطريقة تدريجية بدأت بفكرة الثلث المعطل وصولا إلى إعاقة الحكومة كليا واستبدالها بحكومة معارضة تمثلت بحكومة نجيب ميقاتي ؛ عندما أصبح حزب الله حاكما للبنان عبر حكومة ميقاتي لم يتنازل الحزب عن سنتيمتر واحد من حيز المعارضة الذي ظل مقبضا عليه بحيث أصبح الحزب حاكما ومعارضا معا ؛ وهنا تتكرر التجربة كاملة في تجربة الحوثيين وتشكل فكرة اللجنة الثورية الحارسة على صيانة وحماية مكتسبات الثورة تماشيا تاما ومحاكاة مع تجربة حزب الله في لبنان ؛ خصوصا ؛ً وأن الإعلان الدستوري الحوثي الذي اصدروه بتاريخ 6 / فبراير / 2015م يتحدث عن حكومة يفترض أن تنشأ وتحكم بعيدا عن الحوثيين ولكن تحت سيطرتهم وهيمنتهم الممثلة في اللجنة الثورية العليا المهيمنة على تنفيذ السياسات العامة في البلد كما هو مقرر في المادة (11) من باب الأحكام الانتقالية في الإعلان ؛ وهكذا يمكن تسمية تجربة الحوثيين في احتلال المعارضة بخطف المعارضة بكل ادواتها والسلطة معا .. هؤلاء بكل تجاربهم المختلفة في اليمن وانطلاقا من ادراكهم العميق بأهمية المعارضة في اليمن لا ينطلقون في مشروع افساد المعارضة من مجرد مخاوف عابرة وهواجس بقدر ما يدركون الأهمية القصوى لأدوات المعارضة من مظاهرات واحتجاجات ورأي عام وتجييش مجتمعي ونوافذ وصلات وعلاقات مع مؤسسات دولية نافذة داعمة للتغيير ؛ هذه الأدوات الأساسية هي سر اهتمام الأنظمة المستبدة بفكرة احتلال المعارضة قبل أن يحتلها المعارضون الحقيقيون ويحولونها إلى مسمار يدق في نعوش الأنظمة المستبدة فيما لو فقدت سيطرتها على المعارضة .. هذا هو حال احتلال المعارضة في الشمال فكيف كانت الأمور جنوبا ؟
فيما يخص النسخة الجنوبية لمشروع احتلال المعارضة ؛ فاني ؛ أرى في بعض المفسبكين الجنوبيين ؛ والمدونين ؛ والمغردين ؛ وبعض المواقع الالكترونية نهجا مخيفا يتمثل في قيامهم باحتلال خانة المعارضة لسلوك حكومة الشرعية في محافظة عدن ليس لأجل المعارضة النظيفة التي تحمل مشروعا مناوئا لمشروع حكومة الشرعية ؛ وإنما لسد الباب عن المعارضين الحقيقيين الذين يملكون رؤية متكاملة مبرمجة حتى لا يتمكن هؤلاء من الوصول إلى الناس بطريقة واضحة ؛ مفيدة ؛ وغير مشوشة .. المعارضة المحتلة هي سلاح جديد تخترعه القوى الحاكمة عبر اذرعها من قوى النفوذ المالي المتسخ بفساد السلطة "المضافة" في عاصمة الجنوبيين بغرض إزالة الفوارق في أفهام الناس بين مشروعين واضحين أحدهما يمثل مشروع فساد السلطة البين العيوب والعوار ، والآخر يمثل بوضوح نقاء المعارضة المتمسكة بخيار يقف خارج مشتملات المراجع القانونية والدستورية لسلطة الشرعية الدستورية ومورثها المباشر نظام 7 / 7 ، وصولا إلى حالة الوفاق المستخرج بالتزاوج في نظام 7 / 7 ممثلا في حكومة الوفاق التي أعادت إنتاج هذا النظام بجناحيه المعارض والحاكم .. هؤلاء الاحتلاليون الجدد تذوب اقنعتهم الشمعية بمجرد أن تحتدم الأمور في نقطة ساخنة مع سلطات الشرعية ؛ وهنا ينطلقون من منطقة اللاوعي بطريقة هستيرية تحطم كل مكعبات الوعي المصطنع الذي تمنطقوه فسرقوا به هندام المعارضة المنهوبة فتجدهم يسارعون الى تسفيه تلك الخطوات التصادمية مع السلطة ؛ مع ضرورتها ؛ والتي لربما تبغي من ورائها بعض فصائل المقاومة الجنوبية أن تفرض واقعا معينا ينجز شيئا من جزيئيات الواقع الكلي الذي تحتاج إليه أساسات القضية الجنوبية برقعتها المتسعة في احتياجات البنى التحتية سياسيا وامنيا وعسكريا ؛ تجد المعارضين الجدد يحولون اعمدتهم الإعلامية إلى مطارق تضرب التحرريين على رؤسهم ؛ وينسى هؤلاء وهم في غمرة الدفاع عن المنشأ الأصيل ؛ ينسون منطلق فلسفة التعارضات حين يتعاطون مصطلحات تدعم السلطات وتتعارض كليا مع ابسط مقتضيات المعارضة الوطنية التحريرية التي ينبغي ألا تحاكم في مساقات غير صديقة من عينة مراجعية الانظباط والنظام والدستور والقوانين السارية والمؤسسات الموجودة اصلا لأجل تثبيت دعائم الحكم القائم ؛ هؤلاء يتحدثون عن الثورة وعن الاستقلال وعن الجنوب العربي وكأنها مفردات وحقوق مبوبة ومستحقة في نصوص الدستور والقانون ؛ وكأنها لا تتعارض بالمرة مع كل هذا البناء النصي القائم إلى إنكار وجودي لحق الجنوبيين في تقرير المصير .. لقد عانى الجنوبيين في تجارب كثيرة ؛ ومريرة ؛ من كم الضرر الجسيم الذي يسببه "القادمون من الخلف" في محافل تمنحهم حق الحديث عن الجنوب نكاية بالوجوه الوطنية التي تقدم خطا ثابتا من المواقف التي لا تروق لاعمدة النظام بقطبيه الموالي والمعارض وسانديهم من خط المواقف الدولية الرتيبة شبه المتفقة على دعم وحدة واستقرار اليمن .. لقد أصبح الجنوب بيئة خصبة لتكاثر الطفيليات الجنوبية المعارضة ؛ وصارت المعارضة في الجنوب سوقا حرة وتجارة جعلت المعارضين أكثر ثراءا من مريدي النظام نفسه ؛ وذلك لما تخلقه هذه البيئة من طلبيات جاهزة لفريق رئاسي يعاني فقرا غير مسبوق في مواقف وتصريحات ونخب وبنى ومكونات يمكن أن تجمل وجه الحكومة وتساند جوقة الرئيس باخراج منظومة الوفاق الحاكمة في مشهد سياسي محترم كرئيس وفريق حكومي حقيقي يملك أدوات سياسية ورموز لديها سجلا معقولا من الظهور في محافل ومحطات سياسية وشعبية جنوبية ذات أهمية في إحدى منعطفات القضية الجنوبية الكبرى .. ان حالة الفقر السياسي والحزبي والذي تعاني رئاسة الرئيس عبدربه منصور هادي تشكل خطرا هاما على مقدرات الجنوبيين السياسية والحزبية والشعبية ؛ فهذا العوز الرئاسي يصنع احتياجا جاذبا لكثيرين من رواد المعارضة الطفيلية في الجنوب وهنا يتحول هذا الاحتياج الرئاسي إلى صورة جديدة من صور تعامل النظام مع المعارضة ؛ فهو أسلوب جديد لا يشبه أسلوب الرئيس السابق علي عبدالله صالح ولا يشبه أسلوب الحوثيين المستمد من تجربة حزب الله في لبنان ؛ وإنما هو صورة جديدة تقوم على فكرة سرقة المعارضة من المعارضين الحقيقيين واقتطاع جزء من جنسية المعارضة للتشويش به على جنس المعارضة الحقيقية الجنوبية على وجه الخصوص ؛ واليمنية على وجه العموم ،،،