عندما كان العام يكاد أن ينتهي، في أحد أيام صيف منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كنت حينها قد ولدت في منطقة شعبية لها من أسمها نصيب وافر، رغم حظها العاثر، وسيرتها وسيرة أبناءها النضالية والمثالية، في كل المجالات، السياسية والعلمية والتعليمية، والرياضية والاجتماعية والوطنية، التي وإن قامت جهة ما بجمعها في كتاب واحد، كما يفعل الكاتب العدني الموسوعة بلال غلام حسين، لخرج ذلكم الكتاب محاكيًا إرث عشرات المدن في العالم مجتمعة، ولأصبح بحق كتاب "عدني" شامل وباهر. لا توجد مدينة كعدن تستفزك لتحيا، لتضحك ساخرًا في وجه البؤس، وإن طالت يده، وامتدت لتبعثر سكينتك، وتعبث بكينونة المدينة المتينة، وتعاظم الحزن فيها ليجتاح كل تلك الأحياء الشامخة رغم فقرها وضعفها، والمترفة رغم حاجتها، والتائهة في عز شمس الظهيرة التي تحرق قلب، ووسط، وأطراف المدينة الباذخة بالحياة والسعادة والحزن معًا؛ اعتادت عدنالمدينة المتينة أن تحتفي وتقدر وتخلد كل شيء، إنسان كان أم حيوان، ما يهم هو الزمان والمكان الذي يحفظ لحظة ابتسامة عفوية نثرها طفل أو رجل أو امرأة، أو طاعن بالسن، في وجوه المارة الذين تحفظهم الطرقات، أكثر من حفظهم لها. تتكوم عدن هناك حيثما وُلِدت، تمامًا كما يفعل الطفل، حين تشتد عليه نوبات البكاء، ببحثه عن مكان مألوف يشعره بالأمان، ويهون عليه مصابه، ويخفيه عن الأنظار مؤقتًا، قبل أن يستعيد نفسه. في منطقة "شعب العيدروس" تتراكم هموم عدنالمدينة المتينة الحزينة بين أزقة الحارات، يقتسمهما الناس البسطاء معها منذ زمن بصبر وجلد، قبل أن يمضي كلً في طريقه صباح مساء. في أحياء "شعب العماصير"، حيثما لم يكن يوجد حيوانات يستأنسها بنو البشر، سوى الكلاب في الجبال، وفي بيوت معدودة على أصابع اليد الواحدة، وحمار وحيد، كان يستخدمه العم قائد ليقوم بأعمال شاقة بدًلا عنه، وبعض المواشي التي اعتادت أن تتجول بالقرب منك، دون سوء يمسسها، ومعهم كانت المنطقة تعج بالشخصيات المرموقة رغم بساطتها، والمهمة في مختلف المجالات، ودوائر العمل، والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، تبع ذلك بأعوام قليلة توسع كبير، ومفاجئ للسكان، من داخل وخارج المنطقة، باتجاه كل مساحة شاغرة، وليمتد نحو الجبال المحيطة، بالتوازي مع التناسل المضطرد لكل الكائنات. جرى كل ذلك وسط تغيرات كثيرة مر بها اليمن، جنوبًا، شماًلا، شرقًا وغربًا. حينئذ كان العالم ينمو سريعًا، وتنمو معه عدة خدمات أخرى، لكن ذلك لم يحدث هنا لسبب أو لآخر. الشيء الوحيد الذي كان ملفتًا للنظر هنا هو: نمو معدلات الولادة عند البشر والحمير في المنطقة التي تضم إحدى أكبر الكتل البشرية التي من الممكن لها أن تُحشر وتعيش في مساحة محدودة وضيقة!! مؤخرًا وصل الحال بسكان الحي العتيق أن قاموا بتحميل "الحمار"، شريكهم في الحياة والأحياء، فوق طاقته، في مشهد تراجيدي أثناء وقفة احتجاجية قاموا بها صباح الخميس الماضي، رفقة حمير الحي، أمام مبنى إدارة المجلس المحلي في مديرية المعلا، وديوان محافظ المحافظة، حيث قاموا برفع شعارات تم من خلالها مساوات الحمار الطيب، بالمسئول الفاسد! إحتجاجًا على إنقطاع خدمة المياه، وعدم وصولها إلى المنازل، بعد فترة شهدت فيها المؤسسة العامة للمياه تدهورًا ملحوظًا في الخدمات إثر تأثرها الكبير، وانهيار ميزانيتها التشغيلية، جراء عدة ظروف، أبرزها حالة البلاد (المعجونة)، والحرب الأخيرة (المجنونة)، وأخيرًا إمتناع الناس عن تسديد فواتير الخدمة (الملعونة) أكثر من أي وقت مضى، وبالتحديد منذ أحداث العام 2011. حظر أبناء منطقة "شعب العيدروس" أمام مبنى المحافظة والمجلس المحلي، والحمير تتقدمهم، رافعين شعار يتحدث باللغة العدنية العامية البسيطة ويقول: "بسبب الفاسدين اشترينا حمير علشان نطلع الماء .. نشتي عدن بدون فاسدين وحمير". من السهل عليك أن تعرف هذه الحقيقة، وإن كنت لم تزر المنطقة سوى مرة واحدة في حياتك كلها: لا ينام البشر والحمير في شعب العيدروس، وأجزاء أخرى من مدينة عدن ملئ جفونهم، إلا حين تنام أرواحهم بسلام إلى الأبد. أثناء ذلك، لا يخلو الأمر من التعقيد، حيث يُنادي المكفن بالماء لغسلك، فينتظر ليأتونه بسطول ماء متفرقة من كل بيت، لغياب المياه العمومية الواصلة للمنطقة، وعدم حضورهاإلا كل يومين، وبعض الأوقات ثلاثة، وبعضها كل أربعة أيام (مرة واحدة) ولساعات فقط! يحدث كل ذلك حتى من قبل أن يمتنع الناس عن تسديد فواتير الخدمات الأساسية سواء من ماء، أو كهرباء، وهي الخدمات التي تشبه مالكيها حد التوأمه، والمقدمة من حكومة البلد المعجون المجنون الملعون! في "شعب العيدروس" لن تستكين روحك، وروح حمارك، إلا حين يوارى جسدكما الثرى فقط! في شعب العيدروس أصبح الحمار حيوان (مُقدس) يمشي مختاًلا ويردد بشكل يومي شعار: "أسمعوا أهم الأخبار .. أنا الحمار .. أنا أول الأخيار" وسط احترام كبير من سكان الحي، وتقدير له. عندما خذلت الدولة عدن عمومًا، وشعب العيدروس خصوصًا، منذ زمن بعيد، وتركتهما لأقدارهما، خذلت في البدء مدينة "كريتر" العتيقة، المدينة المكتظة العامرة الزاخرة المفاخرة بفقراءها، ومتوسطي الدخل فيها، وهي المدينة الرئاسية الأولى، بإحتضانها لقصر الدولة في منطقة معاشيق، ولك أن تتخيل كيف هو حال باقي المناطق، والمديريات، والخدمات الأساسية فيها، وكريتر، المدينة الأساس، وما يحدث في أحيائها التاريخية، وصمة عار حقيقية على جباه كل المسئولين السابقين، والحاليين، الذين ظلوا متفرجين على تدهور حالة المدينة وأحياءها حجرًا وشجرًا وبشرًا، وحمير! أن سهولة ودوام توجيه التهمة نحو أي تحركات شعبية في عدن، وربطها بمصالح سياسية حزبية ضيقة، تؤتي أكلها دائمًا، وتساهم في تعزيز مسببات معاناة الناس هنا، وبالذات في شعب العيدروس، وليس ببعيد ما حدث للبشر والحمير المعتصمين أمام مبنى إدارة المجلس المحلي وديوان المحافظة صباح الخميس الماضي، ووصفهم من قبل البعض بأنهم يتبعون جهة سياسية معينة، تدفعهم للخروج في هذا التوقيت للمطالبة بوضع حلول لمعاناتهم المتمثلة بعدم وصول الماء إلى منازلهم، رغم كونهم يمثلون (قلب) المدينة، ورئتيها، وعمودها الفقري، والأكيد أنهم في هذه المرة لن يفلحوا بالنيل من أبناء الحي، كما يفعلون دائمًا، لأننا لاحظنا تكاتف رائع بينهم، قلما حضر خلال السنوات الماضية، وتصميم على تصعيد الأمر إلى أعلى المستويات، إن لم يتم النظر في مأساتهم التي خرجوا من أجلها، وهذا ما يعني بأنهم وإذ كانوا صامتين طوال الأعوام الماضية، ليس لكونهم عاجزين عن المطالبة بحياة كالحياة، كما سبق وأن طالب شاعر الجرح الغائر الراحل "محمود درويش" العالم، بل لأنهم لم يعودوا قادرين على مواصلة الصمت أكثر، في ظل تفاقم، وسوء، كافة الأوضاع المعيشية والخدمية الحكومية في عدن، لدرجة غير مسبوقة، تنذر بخطر حقيقي يهدد حياتهم، وحياة ذويهم، ومدينتهم التي تبدو منذ أكثر من عامين أشبه بمعسكر كبير، تعلو فيها أصوت الحرب والموت، على أصوات الباحثين عن حياة كريمة، ولا أهمية لشيء فيها، أكثر من أهمية طلقات الرصاص! كانت الخطوة التي خطاها أبناء أحياء منطقة "شعب العيدروس"، بمساعدة الحمير الحاضرة معهم، وبتكاتفهم معًا، خطوة جبارة وشجاعة؛ هي (وقفةٌ) كما قال المرشدي في يوم مضى، ليس لها أن تحل المشكلة جذريًا، وهذا أمر منطقي، كونها محتاجة لإرادة دولة، سواءً كانت دولة عميقة أو عقيمة! سمها ما شئت، وهو الأمر الغير متوافر الآن، كما لم يكن متوافر في ظل ظروف أفضل للأمانة، لكن يبقى المهم توفر الإرادة لدى قيادة المحافظة التي تسعى الدولة من خلالها إلى تحسين واقع حال هؤلاء الناس الذين لم يكونوا بحاجة لوقفة مماثلة إذا ما كانوا يقطنون إحدى القرى، أو المدن النائية، كونها قد تكيفت مع معاناتها، ومعها ساكنيها، ناهيك عن كونها بعيدة كل البعد عن مراكز صناعة القرار السياسي، ويمكن أن نتفهم حرمانها من الخدمات الأساسية كوننا لم نجد تلك الخدمات في المدينة أصًلا، وعلى المحافظ والناس بعدن أن يأخذا ذلك بعين الإعتبار. علينا نحن كذلك فهم ما بات يحدث في مدينة ك "مدينة عدن" المنارة التنويرية والسياسية والعلمية والعملية الاقتصادية الأولى، بأنه باطل رسمي، نساهم فيه نحن كذلك كمواطنين، من خلال عدم تفاعلنا مع متطلباتنا واحتياجاتنا الأساسية وحرصنا على ديمومتها واستمرارية وجودها بفعل فهمنا المعكوس، والمشوش، لمعنى الدولة القائمة على الأرض، أو ما تبقى منها، أو ما خلفته .. ليس مهم .. المهم بشكل رئيسي أن نتعامل مع الخدمات الأساسية، ومع إلتزاماتنا تجاهها بالطريقة التي تمكننا من رفع صوتنا عاليًا، وأعلى بكثير، مما صنعه الناس وحميرهم أمام مبنى إدارة المجلس المحلي، وديوان محافظ محافظة عدن. للناس، وقيادة السلطة، وأبناء الحي المسحوق الذي أحب في عدن: أن تطلب شربة ماء، ولا تجدها، سواء كانت لك، أو للولد، وللوالد وما ولد في عدن! فالأمر مؤلم حد الوجع الذي يُخَلّف مرارة تُضاف إلى مرارة غياب التيار الكهربائي، وبالتالي ها نحن ننتج في عدن غيابًا جديدًا .. وهو غياب النفس عن الأكل حتى! وعن مواصلة العيش .. حينها لن تفرق معك عملية الموت منفجرًا ومتناثرًا إلى أشلاء صغيرة، رفقة بعض الموتى الأحياء الذين يقفون بجانبك منتظرين الخلاص؛ عن الموت وأنت تجلس في بيتك تندب حظك الرديء الذي ساقك نحو نهاية كهذه يصبح فيها الحمار هو أول الأخيار الذين يخففون عنك، ويقفون إلى جانبك، ويمنحونك الصبر، والمثال والمثل في الحياة!؟