طالبني الجميع بحلاقة شعري ، لقد أصبح شعر رأسي كثيفا جدا، فكان الجميع يسألني بإلحاح "متى ستقص شعرك؟"، كان الجميع يسخر مني دائما ويعتبرني أبلهاً في تفكيري، بل وفي كل شيء حتى شعري، حتى أنه في إحدى الأيام بينما كنت في الفصل دخلت علينا مدرستنا الآنسة جاما وحينما رأت كثافة شعري قالت –وكنت أنا المقصود بكلامها- "لن أذكر أية أسماء، لكن ليكن معلوما بأن الشخص المعني بكلامي هذا إذا لم يذهب للحلاق خلال هذه الأيام سوف يرسل للإصلاحية" ، بينما قالت هذا كانت تنظر إلي بين الفينة والأخرى، زملائي في الفصل كذلك كانوا يسخرون من كثافة شعري ، ولكني لم أكن أعرهم أي اهتمام. حتى أخي كراير طالبني بحلاقة شعري. إلى أن أتى ذلك اليوم الذي طال فيه شعري لدرجة أن أحد طيور السنونو أعتقد بأنه عشب كثيف فحط علي –بينما كنت نائما- وبدأ ببناء عشه على شعري، هنا أسرعت في الذهاب إلى المدينة كي أقص شعري. لم يكن يعنيني كثيرا ما يفكر به الناس عادة، لم يكن يعنيني أن يكون شعري طويلا أم قصيرا، لا أهتم كثيرا بدرجاتي في المدرسة،كما أنه لا تعنيني كثيرا المشاكل التقليدية للناس العاديين مثل البحث عن وظيفة أو البحث عن أصدقاء والزواج وغيرها، لم أهتم حتى بمظهري. كان كل تفكيري ينصب في جمال الطبيعة، في الحياة، في الورود والرياحين. كنت أحب السفر وزيارة العديد من المدن مثل نيويورك ولندن و باريس وبرلين وفينا وروما كنت أحب أن أرى جمال الطبيعة هناك ،مثل زرقة ماء البحر والسفن الراسية فيه.
آآه لقد نسيت أن أكمل لكم ما حدث بعد أن حط طائر السنونو على شعري وشرع ببناء عشه بينما كنت نائما، هنا أدركت أن كثافة الشعر بهذا الشكل المفرط لم يكن بالشيء الطبيعي حتى بالنسبة لطائر السنونو فكيف بالناس من حولي، عندها أدركت بأن عائلتي والناس جميعا كانوا على صواب في طلبهم هذا، عندها أسرعت إلى المدينة لقص شعري كي لا أسمح لأي طائر بعد الآن بأن يعشش فيه.
وصلت إلى محل حلاق أرميني يدعى آرام، لا أعلم في الواقع إذا ما كان في الأصل مزارعا أو مدرسا، أي لم تكن الحلاقة مهنته، وكل ماكنت أعرفه عنه بأنه يقضي معظم وقته في محله في قراءة الصحف والمجلات الأرمينية ، ويقوم بلف السجائر بالتبغ كي يدخنها ويراقب الناس الذاهبة والآتية بالقرب من محله، كان ثرثارا أكثر منه حلاقا ، ولا يذهب أي زبون إليه كي يقص له شعره. توجهت صوب محله، وعندما دخلت وجدته نائما على إحدى الطاولات ، كان وجهه مغطى بكتاب كان يقرأه قبل أن يغط في النوم. أيقظته وقلت له "هل لك أن تقص شعري؟ عندي خمسة وعشرون سنتا" ، ظهرت السعادة على وجهه بمجرد رؤيته لي،وبدأ أنني الزبون الوحيد الذي حضر إليه، فقال مرحبا "آآه، كم أنا سعيد برؤيتك، ما اسمك؟إجلس، سأحظر لك كوبا من القهوة. يبدو شعرك كثيفا جدا يا عزيزي!!" ، قلت له "يطالبني الجميع بقص شعري"، فقال لي "هكذا هو المجتمع، دائما ما يملي على الإنسان ما يجب عليه أن يفعله. فلا يمكن أن يترك الإنسان أن ينعم بالاستقلالية والهدوء" ، فسألته "هل يمكنك قص شعري؟" ، فأجاب "علينا أولا أن نشرب القهوة يا عزيزي" . عندها أحضر لي كوبا من القهوة، لم أكن أعرف الحلاق، وأحسست بأنه شخص استثنائي في طباعه ، أدركت هذا من صحوته من نومه ومن طريقة كلامه معي وكذا مشيته. كان في حوالي الخمسين من العمر وكنت في الحادية عشرة. كان يبدو لي بأنه رجل يعتقد نفسه بأنه يعرف كنه الحياة والعالم. بعد أن شربت القهوة ، رحب بي مرة ثانية وطلب مني أن أصعد على الكرسي استعدادا للحلاقة.
أثناء حلاقته لي حكي لي عن خاله السيد ميساك فقال " ولد خالي في بلدة موش، كان فتىً شقيا جدا وقويا ، كان يستطيع أن يقاتل أكثر من فتى في آن، كان شجاعا جدا،وكان طيبا. كان كثيرا من الناس ما يطلب منه أن يستغل قوته تلك في عمل ما يكسبه الكثير من النقود. وقد فعل. وكسب الكثير من الأموال ولكنه بددها كلها لزوجته وأولاده، لم يكن يفكر بنفسه ولا بالمستقبل، كل ما كان يعنيه هو توفير الراحة لزوجته وأولاده، فلم يكن يدخر المال. فكما يقال يا عزيزي القرش الأبيض لليوم الأسود، ولكنه لم ينتبه لهذا. إلى أن وصل إلى سن الأربعين، ولم يعد قويا كما كان من قبل، وبالتالي لم يستطع أن يعمل ويكسب المال، فتدهورت أحواله المادية وكذا صحته، فقرر خالي المسكين السفر إلى فيينا للعمل ولكنه فشل وكاد أن يموت من الجوع، لكنه لم يسرق أبدا، فقرر السفر إلى برلين" ، فقلت له بدهشة "برلين!!" ، رد الحلاق مؤكدا "نعم، تلك المدينة التي لم يجد فيها سوى البؤس والشقاء".... كان يحكي لي قصة خاله باهتمام كبير لا يوازي اهتمامه بحلاقة شعري، بل أنه بدا غافلا تماما عن شعري الذي يحلقه، فأحسست ببرودة رأسي في الأماكن التي كان يحلقها...تابع كلامه فقال "آآآه برلين، كم أشعر بالأسى من تلك المدينة التي لم تفتح أبوابها لخالي المسكين، فكانت جميع الشوارع وجميع المساكن و جميع الناس غلاظ القلوب و قساة على خالي المسكين، فلم تؤويه ولو غرفة واحدة..." ، كان متأثرا جدا عندما وصل إلى هذه النقطة في حكاية خاله ويبدو أن تأثره كان له أثره أيضا على حلاقة شعر رأسي حتى أنني شعرت بوجود صلع في بعض زوايا رأسي، فقلت له متعاطفا ومواسيا "آآه هذه الوحدة الرهيبة لخالك في هذا العالم ، لابد وأنها كانت قاسية عليه"، زاد حماسه عندما سمع ردي فقال "كنت أصلي لله بأن يحميه ويحفظه من غدر الزمان. غادر خالي بعدها إلى الصين وهناك التقى برجل عربي يعمل في سيرك خاص بالسياح الأجانب، بعد أن تعرفا ببعض سأله العربي إن كان يحب الحيوانات، فأجابه خالي بأنه يحب جميع حيوانات الله حتى المفترسة منها. فرح العربي لكلام خالي عندها سأله إن كان يمتلك الجرأة للعمل معهم في السيرك بحيث يضع رأسه داخل فم نمر، فوافق خالي على الفور..." هنا صرخت قائلا "احفظه يارب!!" وقتها لم أشعر بأن مساحة الصلع قد ازدادت في بعض زوايا رأسي وظهرت في زوايا أخرى متفرقة، واصل الحلاق سرد حكايته لي قائلا " نجح خالي بالعمل معهم، فتوالت النجاحات، وبدأت الألفة بين خالي والنمر، وبدأ أفراد السيرك بالسفر إلى الهند ومن ثم إلى أفغانستان ومنها إلى إيران وهناك وقعت المأساة، عندما توحش النمر فجأة وكان يركض هنا وهناك بغضب شديد. وفي موعد العرض عندما وضع خالي رأسه داخل فم النمر عندها أطبق النمر بمخالبه على رأس خالي و....." ، لم أدعه يكمل كلامه، فانتفضت من على الكرسي من هول القصة ، ولكنني عندما نظرت إلى المرآة أمامي وجدت شخصا آخر، كان الصلع يملأ راسي تماما ماعدا بعض الزوايا كان بها قليل من الشعر هنا وهناك. شعرت بالخوف الشديد من شكلي،بعدها دفعت لأرام الخمسة والعشرين سنتا التي كانت بحوزتي.
عندما عدت لقريتي ضحك الجميع من شكلي الجديد ، وشعر أخي كراير بالحزن عندما رأى منظري هذا ولم ينبس ببنت شفه. لكني لم أكترث كثيرا لرأيهم في الحلاقة ، فلم تكن الحلاقة بالشيء المهم بالنسبة إلي ولا حتى الطبيعة التي كانت تأسرني فيما مضى ، فاعتزلت الجميع، وانصب كل تفكيري في أن ينمو شعري من جديد كي أذهب للحلاق آرام وأعرف منه ماذا حدث لخاله بعد أن وضع رأسه داخل فم النمر.
ترجمة د/ طارق علي عيدروس السقاف كلية التربية/صبر/قسم اللغة الإنكليزية