صدر مؤخراً كتاب "ذكريات النضال والعمل الوطني " لصاحبها المناضل يوسف عبدالله سعد القعيطي، وهو أحد أبطال زمننا الذين كان لهم شرف المشاركة في مقارعة الاستعمار البريطاني وفي صِنْع فجر الاستقلال، ثم تصدّروا لمهمة بناء الدولة الوطنية بحماس وإخلاص. وقد دوَّن هذه الذكريات في وقت متأخر، بعد إحالته إلى التقاعد الإجباري، ولم يكن متحمساً لنشرها، لولا تشجيع أصدقائه وعلى وجه الخصوص الأخ منصر صالح العمراني الذي جاءني بالمخطوطة فاتفقت معه على أهمية نشرها، خاصة وأن صاحبها هو أحد رموز السلطة المحلية في يافع على مدى عقدين بعد الاستقلال الوطني، ومن الرعيل الأول للمناضلين ضد الاستعمار ممن يختزنون في ذاكرتهم بالكثير من الوقائع التي يجب أن تدون وتوثق. قرأت هذه الذكريات بشغف واهتمام كبيرين، ووجدت فيها مادة تاريخية دسمة تستحق النشر، كتبها صاحبها بدم القلب ووجع السنين، وتنبع أهميتها من كونها تتعرض للحديث عن مرحلة هامة من تاريخنا المعاصر وبلسان أحد المشاركين في صنع تلك الأحداث بل وأحد أبطالها الحقيقيين. أما الفترة الزمنية التي تناولتها فتمتد منذ عام 1945م عند نزول صاحبها إلى عدن في السابعة من عمره وحتى احالته إلى التقاعد القسري بعد حرب احتلال الجنوب عام 1994م. اعتدنا في كثير من الذكريات أن يكون صاحبها هو بطلها الوحيد، أما في هذه الذكريات فنجد أن هذا البطل يختفي في كثير من الأحيان ليبرز في دائرة الضوء شخصيات أخرى هامة ساهمت في النضال الوطني في مختلف المراحل أو يشيد بدور الجماهير التواقة للتغير والمندفعة بحماس في صنع التحولات التاريخية، وهو يركز بشكلٍ عام على الأحداث العامة أكثر من تعرضه لسيرته الذاتية التي لا يذكرها إلا لماماً في معرض الحديث عن المهام الوطنية التي كان مشاركاً في انجازها أو عند استعراضه لمستوى الأداء في المسئوليات التي تبوأها. فعلى سبيل المثال نجد أنه اقتصر حديثه عن طفولته في أسطر معدودة ثم عرج بنا في رحلة انتقاله إلى مدينة عدن، حيث كان يعيش ويعمل شقيقه الأكبر إسماعيل، وكيف حُرم من التعليم في المدارس الحكومية ولجأ إلى مدرسة خاصة، وفي عدن تفتح وعيه الوطني وبدأت حياته العملية والنضالية الهامة، والتحق مبكراً في صفوف الحركة الوطنية عبر النقابات العمالية في عدن التي لعبت دوراً هاماً في التمهيد للثورة، ثم تطرق إلى مساهمته في الكفاح ضد الاستعمار البريطاني، مروراً بدوره الملحوظ في إرساء وتثبيت السلطة المحلية في يافع منذ الخطوات الأولى، وصولاً إلى تحمله لعدد من المسئوليات المختلفة التي تدرَّج فيها، لعل أبرزها شغله لمنصب مدير عام تعاونية لبعوس ثم تَسَنُّمه لمنصب مأمور مديرية يافع، وانتهاء بعمله كنائب لمدير عام شركة التجارة الوطنية، وحتى إحالته إلى التقاعد قسراً وتجريده من بعض الحقوق كمكافأة نهاية الخدمة من قبل قوى الاحتلال والنفوذ بعد حرب 94م. أما المسرح الأساسي لهذه الذكريات فينحصر بدرجة رئيسية في مدينة عدن ومنطقة يافع، حيث قضى المؤلف حياته وعمله وأسهم من موقع مسئولياته الهامة في صنع الأحداث والتطورات النضالية والسياسية والاجتماعية التي غيرت مجرى الحياة وأحدثت نقلة تاريخية هامة في حياة المجتمع، وهو ما نجد انعكاساته في فصول الكتاب، ومع ذلك فأن مسرح الذكريات ينفتح في بعض الأحيان ليشمل بلدان عربية أو أجنبية سافر إليها المؤلف بمهمام ترتبط بعمله الوطني، فظهرت في صفحات الكتاب انطباعات رحلته الأولى خارج الوطن إلى الصين الشعبية عام 1972م، في عصر مؤسسها ماوتسي تونغ، وقد عكس انبهاره بما رآه، ولم يخفِ اعجابه بتجربة الصين، وعلى الأخص في العمل التعاوني والزراعي وهو المجال الذي ذهب لتلقي دورة تأهيلية فيه مع مجموعة من زملائه من مختلف المحافظات مع بدء إرساء تجربة العمل التعاوني في بلادنا مطلع السبعينات. كما ذهب في دورة تأهيلية أخرى منتصف السبعينات إلى الكويت الشقيق ونلمس من انطباعاته عنها إبرازه لروح حب الوطن لدى المغتربين هناك وتفاعلهم الإيجابي مع ما يعتمل فيه من تطور ونهوض وتجسد ذلك في تعاونهم معه في شراء الآلات الموسيقية والعناية بشحنها على نفقتهم، بل وفوجئ عند استلامها في عدن أن عدد هذه الأدوات الفنية قد زاد إلى الضعف، وكانت تلك هدية منهم لأبناء وطنهم. ما شدّني أكثر إلى هذه الذكريات أنها دَوَّنت حقائق ووقائع شهدتها منطقة يافع خاصة والجنوب عامة خلال مختلف الأحداث والتطورات منذ الاستقلال الوطني، وتحدث عن تلك الأحداث بشفافية قل أن نجدها لدى غيره. وقد رسم لنا صورة لأحداث تلك المرحلة بجوانبها السلبية والإيجابية من منطلق رؤيته الشخصية التي ربما قد يختلف معه آخرون فيها، لأنه من الصعب على أي انسان ان يتجرد من ميوله أو آرائه خلال تدوين تفاصيل الأحداث، التي كان طرفاً فيها، وهذا من حقه، وهذه قناعاته. ويعترف المؤلف أنه لم يدون الأحداث في حينها وزمنها لأنه لم يكن يفكر في يوم من الأيام في تدوينها أو نشرها، ولذلك فإن المصدر الرئيس لكل ما أورده هو ما تبقى في ذاكرته الشخصية التي يحتمل نسيانها للكثير من الأسماء والتفاصيل، وفي كل الأحوال فأن انقضاء هذه الفترة الزمنية المعقولة التي تفصلنا عن زمن الأحداث، قد سمح له بتقييم الماضى بهدوء أكثر والنظر بموضوعية الى الذات وتمييز المهم عن غير المهم. ولهذا فأن ما أورده يكتسب قيمة تاريخية لأنه وثَّق لأحداث وطنية ومنعطفات هامة وسجل تفاصيل تلك الأحداث التي كان مشاركاً فيها وشاهداً عليها منذُ بداياتها، مضمناً إياها انطباعاته عن كثير من رفاق النضال ممن جمعته معهم مراحل النضال الوطني قبل وبعد الاستقلال أو ارتبط معهم بعلاقات حميمة تركت آثاراً عميقة في نفسه ولم يرغب أن يطويها النسيان ففضل تدوينها، كما لم يتحرج من ذكر بعض السلوكيات المتطرفة وكذا الخلافات التي كانت قائمة في مراحل معينة بين رفاق النضال في إطار المديرية غيرت مجرى حياته ، وهي في تقديري ذات صلة بالخلافات والصراعات الداخلية على مستوى الحزب والدولة بشكل عام، إضافة إلى ما نتج لاحقاً عن حرب احتلال الجنوب من اختلال للقيم النبيلة التي نشأ عليها جيله، وقد أورد اعترافات أبرز فيها دوره الشخصي وتعرض لعلاقته بهذه الشخصية أو تلك ، بما في ذلك بعض ممن تنكروا لعلاقات النضال أو العمل الوطني، وهو ما ترك غصة في نفسه فأعاد النظر في نظرته إليهم مستخلصا من ذلك العظات والعبر. ولا يقلل من قيمة هذه الذكريات أنها كتبت بلغة بسيطة ومباشرة بعيداً عن الزخارف اللغوية والمحسنات الأدبية التي تضفي على بعض الذكريات قيمة أدبية وفنية، ذلك أنه ليس بالمؤرخ أو الباحث، لكنه قدَّم مادة تاريخية بتفاصيل قد تغيب عن أذهان من لم يعايشها، وهي بلا شك مفيدة للباحثين والمؤرخين الذين سيجدون فيها ضالتهم المنشودة. ولو حَذَا بقيِّةُ المناضلين حَذوه واقتدوا به لابرزوا كثيراَ من صفحات تاريخنا المنسية.