يضع الفلاسفة وصفين لوجود الإنسان (مجازي وحقيقي) الوجود المجازي؛ هو عملية فيزيائية تعاون فيها والديك فأنتجوك، وحينها تكون موجود كعدد، فإذا كان الشعب الجنوبي عشرة مليون فأنت واحد من العشرة مليون.. والوجود الحقيقي؛ أنت من يصنعه وليس غيرك، عن طريق بناء الذات بالثقافة والعلوم والقوة، ويتجسد وجودك الحقيقي بما تنتجه بعد ذلك؛ ما تتركه من أثر، سواء أفعال أوأفكار، ويقاس الحجم الحقيقي بمدى تأثير مافعلته أو قلته.. ويمكن ضرب مثال عن الوجود الحقيقي بقصة الصحابة الأربعة الذين أرسلهم عمر بن الخطاب مدد لعمرو بن العاص، عندما أبطأ في فتح مصر، قال عمر(لقد أمددتك بأربعة آلاف، على كل ألف رجلٌ بألف) رضي الله عنهم جميعاً..
الوجود الحقيقي هو الذي نتمناه من المجلس السياسي الإنتقالي، لانريد الوجود المجازي فيصبح "رقم" بين المكونات الجنوبية وهي كثيرة جداً.. لقد ضاق الشعب الجنوبي من تلك المكونات الأرقام، التي لاتأثير لها، وبسبب عجزها صنعت فجوة بينها وبين الشعب، وأصابته بالإحباط واليأس؛ وهذا هو الذي دفع الشعب للإلتفاف حول المجلس الإنتقالي، وأعطاه تفويض مطلق كقيادة جنوبية، واسقط كل المكونات، والقيادات التاريخية، والقيادات القبلية والإجتماعية.
والوجود الحقيقي يتطلب واقعية في كينونة المجلس، وبناء ثقافة تخصه وقدرات حقيقية؛ تحوله من الوجود المجازي إلى الحقيقي، القادر على صناعة أحداث تسير في طريق تحقيق هدف الشعب.. وحتى تتحقق القدرة على صناعة الأحداث يحتاج المجلس لعدّة متطلبات، داخلية وخارجية؛
أولها؛ أن يكون محور جذب للجنوبيين؛ وليس منفر ممزق للصف الجنوبي، ومدعاة للتخوين والتشكيك.. جاذب للمكونات والسياسيين والمفكرين، وأن يستقطب الكفاءات الحقيقية التي تُعدُّ "قيمة مضافة" قياساً بقول عمر بن الخطاب "الرجل منهم بألف" وحينها يصبح الكتلة الجنوبية الأقوى، وبالتفويض الشعبي يستطيع الحديث باسم الشعب الجنوبي دون الإلتفات للأصوات التي تعارضه.
ثانياً؛ التخلص من "الديماغوجية" التي اعتادتها المكونات والقيادات في الماضي؛ والتي خاطبت عواطف الشعب وباعت له الوهم، فخلقت (عدو داخلي خفي) سبباً لفشلها، بينما الحقيقة لايوجد عدو خفي، والسبب الحقيقي لفشلها أنَّها غير قادرة، بل هي كتلة من الفشل.. فيصبح المجلس برغماتي يضع أهدافه المرحلية من وحي قدراته ومعطيات الواقع، أهداف قابلة للتحقيق "قصيرة الأجل وطويلة الأجل".. الاستراتيجية الواقعية تجعله قادر على التكيف مع المتغيرات، وتوظيفها توظيف كفوء، وقدرة على اقتناص الفرص بكفاءة وبالوقت المناسب.
ثالثاً؛ أن يكون المجلس منبر معرفة وتأهيل؛ والانضمام إليه مقرون بقابلية العضو لاكتساب ثقافة المجلس "العملية، المتجددة، الطامحة" وتكون المعرفة والعلوم التي يكتسبها شرط بقاءه وترفيعه في هرم المجلس، وليس شهرته وقدراته الاحتيالية على الآخرين، ثم ينام داخل المجلس لايفعل شيء.
وهناك سمات كثيرة نتمنى أن يتحلى بها المجلس الانتقالي لايتسع لها مقال واحد، وسنعود إلى تناولها مرات عديدة.
ختام أقول: قد يكون المجلس الانتقالي أيقونة تحدي الذات الجنوبية، ووجوده يدفع العناصر الانتهازية الفاشلة التي اعتادت القفز من مكون إلى آخر، ومن تبعية قائد إلى غيره ترك المكونات والالتفاف حول المجلس.. وهؤلاء هم الخطر الحقيقي على المجلس لأنهم سينقلون معهم الفشل الذي اعتادوا عليه.. وهذا إذا حدث سيصب في مصلحة المكونات؛ لأنها حينها ستكون تخلصت من الانتهازيين، وتستطيع الانطلاق نحو بناء نفسها من جديد، وتتحول من الوجود المجازي إلى الوجود الحقيقي، وقد تتجاوز المجلس الانتقالي في التأثير بالواقع، وتصنع الأحداث.. وحينها قد يعطيها الشعب تفويض الحديث باسمه كما فوض المجلس اليوم.. وفي كِلا الحالتين الجنوب يستفيد.