في مشهد اختلطت فيه الأوراق المحلية والدولية ، و المفاهيم الوطنيةوالقومية ، والشعارات الدينية والثورية ، وجد الشعب نفسه في أتون صراع لايفضي إلا إلى الصراع ، فكل حلقة منه تفضي إلى أخرى دون أن يتغير في المشهد شيئ سوى زيادته قتامةوتعقيدا . الجمهوريون تخلوا عن الجمهورية حين لفظتهم من هرم السلطة ؛ فذهبوا مهرولين إلى أخضان الملكية دون حياء من ماض أو خجل من مستقبل ، ودخل الأماميون عاصمة الجمهورية صنعاء ممتطين دبابات الجمهورية المزينة بالشعارات الإمامية ، والهتافات الملكية التي يرددها الجمهوريين فرحا واستبشارا بيوم سقوط الجمهورية . سقطت صنعاء بمباركة أقليمية ، ودعم عربي وتأييد شعبي ، في أغرب متناقضة شهدها التاريخي السياسي وقفت عندها الحسابات حائرة ، والتحليلات عاجزة عن فهم هذه الإستراتيجة المجنونة . أعمى الحقد أطراف الصراع الإقليمية والمحلية ، واصمها الانتقام ، وعطلت حواسها الضغائن الشخصية ، حتى أصبحت قوى الصراع المحلية والإقليمية لاترى ولاتسمع إلا ما وافق هواها وأشبع غريزتها في التشفي والانتقام ، في حين لم تكن تعلم أن هناك من يجمع هذه الأشتات المتناقضة ويصنع منها نواة دولة كانت بمثابة هدية سماويها ظنت بها الأقدار زمنا طويلا ولا أظن أنها ستتكرر ، لذا يعض صانع هذه الدويلة عليها بالنواجذ ، وأن بدأ لرعاة الأبل أن زوالها بات وشيكا ، لأن الدويلة الناشئة دخلت ضمن حسابات الكبار . ظلت الجماعة المارقة في نظر حلفائها حليفا استراتيجيا وفرسا يعول عليه في طي مسافة التناقضات الدينية والقومية في زمن قياسي ، وظلت طهران حظنا دافئا للجماعة الناشئة تراقب سلوكها وتوجهه كما لم تخذلها أو تتلكأ في نجدتها سياسيا وعسكريا كلما دعت الحاجة إلى ذلك . في حين فرط رعاة الأبل في حلفائهم الواحد تلو الأخر ، وذهبوا يتوسمون الخير في أعدائهم ؛ فطووا أوصر الجوار القربى والمصالح بإيديهم في زمن قياسي ؛ وسلموا مفاتيح أبواب صنعاء للحوثيين ، وأعطوهم الإذن ادخلوها بسلام آمنين ... حدث توقف عنده الزمان والمكان مذهولا عاجزا عن تدوين الحدث الذي لم يقبله العقل ولم تتعاطى معه سنن التاريخ. سيطر الحوثيون على صنعاء بمال عربي ، ومباركة عربية ، وغطاء يمني على المستوى الرسمي والشعبي ؛ في لحظة كان الحقد والتشفي هو المتحكم في الحسابات الشخصية والرسمية المحلية والاقليمية . بسيطرة جماعة الحوثي على صنعاء طوت إيران مسافات طويلة تعجز عن حسابها السنيين الضوئية ، في حين نأت صنعاء حتى توارت قصورها عن محيطها الديني والقومي بمجرد أن وطأت أقدام الملكيين عتبات القصر الجمهوري . انشغل ثوار التغيير بصالح ، وانشغل صالح بالإنتقام ممن ساهم أو تعاون في الإطاحة به وفي غمرة الانشغال هذه تخلى صالح عن أنيابه ومخالبة نكاية بالقوى التي اطاحت به من الحكم ، وانشغلت هي تمني نفسها بأماني كاذبة حين أوهمت نفسها أن الجماعةالمارقة مكونا من مكونات الثورة ، كما أوهم صالح نفسه إن بإمكانه استعادة أنيابه ومخالبه . شنت السعودية حربا شاملة على جارتها الفقيرة المنهكة ، في لحظة وهم لاتقل عن وهم ثوار التغيير الذين صدقوا كذبة تسليم صالح للسلطة ، وتصديق صالح لنفسه أن بإمكانه استعادة أنيابة ومخالبه من الحوثيين متى أراد . استمرت مشاريع الوهم المحلية والإقليمية في التناسل بسرعة عجيبة حتى ظللت هذه المشاريع خارطة الجزيرة العربية ، فبعد سنتين و نيف من قراع نصال المتحاربين لم تسفر سوى تارجح المواقف وتذبذب في القناعات ، حرب لم تستقر عناوينها ومسمياتها ناهيك عن أهدافها وغاياتها، فتحت عنوانها الرئيس استعادة الشرعية تزاحمت المشاريع ، وتناقضت الأهداف وتعددت الغايات تحت الراية الواحدة ، فغدت القوى المحلية المتحالفة مع التحالف عبارة عن توليفة غير متجانسة الأهداف و الغايات ، وبدأ التحالف كالملاح التائه في عرض البحر ؛ واقفا على مفترق طرق لايدر أيهما أقصر سبيلا ، في حين لو اهتدى للحقيقة الأزلية التي لاتخضع للحسابات السياسية أو الفلسفة البرجماتية بأن الله كتب على كل شيئ الفناء لما ذهب ينفخ الروح في الكهل عفاش محاولا إعادته إلى الواجهه بعد أن أدبرت أيامه وأفل نجمه .