كل طرف في الحرب الجارية يرسم صورة ذهنية للطرف الآخر في معادلة القوة فيها قدر كبير من المبالغة التي لا مبرر لها سوى الرغبة في إنتاج خطاب معادٍ يلقى الرواج عند جمهور لديه غالبا الاستعداد المسبق لتقبل هذه الصورة بفعل عوامل كثيرة يتداخل فيها النفسي مع الثقافي على نحو يجعل منتج الخطاب غير مضطر للبحث عن أية حيثيات تضفي على خطابه القدرة على الإقناع على أساس من الحجاج الموضوعي. إذاً هناك جمهور عنده جاهزية لتلقي الخطاب المحرِّض على الحرب، وهناك منتج لهذا الخطاب يستثمر جاهزية الجمهور لترويج مشروعه، وهذا يؤكد أن مجتمعنا ليس مجتمعا واحدا وإنما مجتمعات مشحونه ومعبأة بكل أسباب الصراع ودوافع العنف. وإذا كان الأمر كذلك فكل مكونات المجتمع مهيأة للحرب ومستعدة لها نفسيا في حال توفر السلاح، أما المبررات فالخطاب كفيل بإنتاجها على النحو الذي يلهب مشاعر المحاربين، وهذا يعني أن الحرب لا يجب أن يُسأل عنها طرف بعينه واتهامه بالتوحش دون سواه بينما واقع الحال يقول إننا مجتمع يؤمن فيه الجلاد والضحية على السواء بالعنف. علينا إذاً أن نعيد ضبط النقاش بحثاً عن جذور المشكلة في المجتمع كله وليس لدى مكوِّن بعينه في هذا المجتمع. ومن شأن هذا الضبط أن يساعدنا على رؤية الفارق الكبير بين أن نقول: "أنصار الله حملوا السلاح لأنهم يمنيون يحملون خصائص مجتمعهم المستعد لخوض حروب داخلية" وبين قول البعض: "أنصار الله حملوا السلاح لأنهم روافض غرباء علينا ودخلاء على مجتمعنا". والفرق كبير أيضا بين قولنا: "إن المواطنين في محافظاتتعز ومأرب والبيضاء وغيرها قد ضاقوا ذرعا بالمركزية الجغرافية ولم يعودوا مستعدين للقبول بها" وبين قول البعض: "هؤلاء نواصب وقاعدة ودواعش ومرتزقة للعدوان". ومن غير شك أن الحرب تتغذى على القول الثاني في الحالتين. إننا إذاً في الهم شرقُ، والعنف هو المرض المتغلغل والمستشري في مجتمعنا وليس هو العرض أو الاستثناء، ودليل ذلك أن ثورة 11 فبراير 2011 أدهشتنا كثيرا عندما جاءت بعكس ما توقعناه وضد ما اعتاده وتمرس عليه المجتمع من العنف في حل مشاكله. ولو أن السلم هو الأصل في مجتمعنا-كما هو في أي مجتمع طبيعي-لما أدهشتنا سلمية الثورة، بل كنا سنعتبرها امتدادا طبيعيا لثقافة المجتمع وسلوكه وممارساته، لكن الذي حدث أننا تحدثنا وكتبنا عن سلمية الثورة أكثر بما لا يقاس من أحاديثنا وكتاباتنا عن أسبابها ومطالبها. ولأن سلمية ثورة فبراير كانت بالنسبة لنا استثناء وليس أصلا فإن هذا يبرر لنا الدعوة إلى الحوار والتمسك به باعتباره ضرورة ووسيلة وحيدة لإعادة تصحيح العلاقة بيننا كمجتمعات داخل مجتمع واحد. والحوار الذي نقصده لا يطابق "التسامح" ولا يعني أبدا التبرير لأحد عن ممارساته المتغولة على الفرد والمجتمع والدولة وإنما هو الحوار الذي يعيد للناس عقولهم، وهو لا يعني بأي حال من الأحوال إعفاء هذه الجهة أو تلك من مسئوليتها وإنما يعني تحميلها المسئولية مضاعفة لكونها لجأت إلى العنف وكان بمقدورها أن تحقق ما أرادت أن تحققه عبر الحوار. وعلينا بداية أن نقتنع بأن المعادلة عندنا مقلوبة، فالسلاح الذي رفعه أنصار الله هو نفسه السلاح الذي رفعه غيرهم مرات كثيرة، وهو نفسه الذي سيكون غدا بيد غيرهم، لأن المثل اليمني القائل: (من قوَّى صميله عاش) متجذر في اللاوعي المجتمعي ويتحكم بالعلاقات البينية. ولهذا ما قام به أنصار الله ليس مستغربا وإنما المستغرب هو استغرابه. وحينما ندعو للحوار فلأننا نريد أن ننزع الجذور التي تنتج العنف وتعيد انتاجه عبر دورات متوالية. وإدانة سلاح أنصار الله يجب أن تأتي في سياقها إدانة لكل سلاح، وقبل ذلك إدانة لكل الأسباب التي تدفع أي طرف في المجتمع لرفع السلاح. إن تفنيد حمل السلاح لا يكون بمهاجمة حامل السلاح ووصفه بالهمجية والوحشية وإنما بالكشف عن أسباب حاجته –الفعلية أو المتوهمة-إلى السلاح والعمل على إزالتها وتوعيته بمخاطر حمل السلاح عليه قبل غيره ومنحه فرصة الاندماج في المجتمع، وكل ذلك لا يمكن أن يكون إلا بالحوار الذي بغيره لم نستطع ولن نستطيع أن نرى الفارق الكبير بين الاقناع والإرغام على الاندماج. ومصادرة السلاح من أي طرف يجب أن تتم عبر إقناعه بألاَّ ضرورة للسلاح واستمرار الاستقواء به، فنزع السلاح يجب أن يسبقه تغيير العلاقة بين السلاح وصاحبه من جهة وبين صاحب السلاح والآخر من جهة ثانية، حتى يصير السلاح عارا، وحتى ينشأ لدى كل طرف يتمسك بالسلاح إحساس قوي بأنه محاصر بمشاعر مجتمعية تستهجنه وتزدريه. وعلينا أن نفرق بين ازدرائنا للسلاح الذي يرفعه أنصار الله وبين الازدراء لهذه الجماعة. فازدرائنا للسلاح الذي يرفعه أنصار الله هو نفسه ازدرائنا لكل سلاح يرفعه غيرهم. أما ازدرائنا للسلاح لأنه فقط بيد أنصار الله فهذا معناه رضانا بالسلاح ومباركتنا له وعدم اعترافنا بأن كراهيتنا هي في الأصل لأنصار الله وليس لسلاحهم. وليس من حقنا أن نكره أنصار الله أو نزدريهم – من حقنا فقط أن نختلف معهم-كما ليس من حق أنصار الله أن يرغمونا بسلاحهم على أن نكون نسخة منهم. ففكرة التعايش لا يمكن أن تنتج إلا عبر الحوار، والحوار وحده الذي يمكن من خلاله أن نزيل الالتباس عن العلاقات القائمة على أساس الاختلاف والقناعات القائمة على أساس تمجيد الخلاف وما يستتبعه من إقصاء وإلغاء وخصومات وعداوات.... الخ. إن الحوار الذي نريده هو الحوار الذي يعيد رسم الصور الذهنية المتبادلة بحدود الواقع ويحرر التحيزات في ضوء الحجاج ويمنح المتحاورين فرصة إعادة تصحيح المفاهيم وتوضيح التباينات وينتج علاقة صحية تستبدل فكرة العداوة والخصومة التي تستدعي السلاح بفكرة الشراكة التي تستدعي القبول والتعاون والتكامل والتعاضد. أما أن يأتي من يحتج بأن الحوار قد قام وانتهى بنتائج أدهشت العالم وأن الحوثيين خرجوا على التوافق الوطني وذهبوا إلى الانقلاب فهذا القول فيه قدر كبير من القفز على المشكلة وسوف نخصص له مقالنا القادم. رسائل رسائل رسائل: (1) إن خطابات المتصارعين –بما في ذلك خطاب الشرعية-تمارس الشحن والتحريض والكراهية ولا يمكن لجم جموحها إلا بحوار يعيد للكلمة أهميتها وقيمتها ومسئوليتها واحترامها ويُفهِمُ أصحاب الخطابات المتشنجة بأن مشتركاتها أكثر من المختلف عليه وأن القطيعة لا تنتج حلولا ولا تجلب نصرا. وإذا ما اعتبر طرف ما أن السلاح ضروري للانتصار على الطرف الآخر فإنه بهذا يتجاهل حقائق التاريخ البعيد والقريب وكلها تؤكد أن من ينتصر بالسلاح يجر على نفسه الثأر والضغينة ويحكم عليها بالبقاء الدائم في مربع الخوف والتوجس بانتظار ردة الفعل المتوقعة ولو بعد حين. (2) ظهر علينا معتوه يسمي نفسه مثقفا عضويا –وما أكثر المعتوهين في مواسم الحروب-ظهر ليقنعنا بأن السلام –لاحظوا "السلام" وليس الحرب-إشكالية، بل قال إنه "إشكالية سياسية ووطنية" وحشد من أجل ذلك عشرات المصطلحات والجمل الانشائية كما هي دائما عادة اليسار الانشائي الذي يقول كل شيء دون أن يقول أي شيء. والحقيقة إذا جاز أن نقول عن السلام بأنه إشكالية فهو "إشكالية نفسية" لدى البعض على أساس من إرثه الصراعي ورؤيته للحاضر بعين الماضي ولأنه لم يتحرر بعد من أحقاده ولم يستطع أن يتجاوز ظروف الماضي في لاوعيه. وهذه ذهنية سلفية دائما ما تلجأ إلى التاريخ على أساس أنه مستودع الحقيقة المطلقة والنموذج الذي يقاس عليه الحاضر، ومن خصائص هذه الذهنية أنها لا تقرأ التاريخ من أجل أن "تفهم" وإنما من أجل أن "تتذكر". ومما يؤسف له أن كثيرين في المجتمع يرون أن السلام غير ممكن وأن الحرب هي الخيار الذي يجب السير فيه إلى النهاية، وتفسير ذلك أن الشخصية التي نشأت في القمع وعلى القمع وعاشت ظروفه ومتلازماته هي شخصية مريضة تظن أن ما نشأت فيه وعليه هو الأساس في الحياة وفي الواقع وهو الذي يجب أن يحكم الناس وأن ما عداه حديث عن المستحيل، ولأنها شخصية مريضة فهي لا تعي أن منطقها هذا يعيدنا إلى الغابة ويجردنا من إنسانيتنا وأن التسوية التي يجب أن تكون يجب أن تبدأ من الذات ومع الذات ومنها بعد ذلك مع الآخر، أي أن هذه الشخصية بحاجة ماسة للتحرر من مخاوفها وعليها من أجل ذلك أن تعترف لنفسها بالمرض كشرط للخلاص منه وإعادة دمج نفسها مع المجتمع وعند ذاك سيكون بمقدورها أن تشعر بأن الآخر ليس عدوا وأن التربص به ليس هو السلوك السوي. ومما يقوله علم النفس أن سيكولوجية المجرم توهمه بأن المجتمع كله مجرم وأن ما يقوم به تجاه مجتمعه هو دفاع عن النفس أو انتقام لها كما يتوهم، ويقول أيضا إن سيكولوجية المجرم لا تولد معه وإنما يكتسبها من البيئة التي نشأ فيها. ورحم الله المتنبي حين قال: إذا ساءَ فعلُ المرءِ ساءتْ ظنونُه وصدَّق ما يعتادُه من توهمِ وعادى محبيه بقولِ عُداتِه وأصبحَ في ليلٍ من الشكِ مظلمِ إن الذين يعتقدون أن "السلام إشكالية" إنما يقرون ضمنا أن الحرب هي الحل، والذين يتحفظون على السلام ويباركون الحرب وينشطون لتبريرها إنما يشاركون فيها قولا وفعلا ليرضوا بها غرائزهم البدائية متجاهلين حقيقة أن الأمن والأمان لا يمكن أن يأتيا عبر الحرب وما تفرضه على طرف يعادونه في مجتمعهم (ومن يقبل بالشر لجاره فهو من حيث يدري أو لا يدري يتواطأ على نفسه) والسلام في المجتمع بقدر ما ننتجه للآخرين ننتجه لأنفسنا ولأطفالنا ولكل الأجيال من بعدنا. وخلاصة هذه الرسالة: أن سيكولوجيا الإنسان المقموع تجعله يعيش مشاعر بدائية تحفزه على الانتقام، وهو بهذا المعنى خطر على نفسه وخطر على غيره. (3) إن الشرعية الحقة لا يمكن أن تتبنى الحرب كما لو أنها الخيار الرئيس والوحيد، وهي إن اضطرت للحرب دفاعا عن النفس فإنها لا تنتج الخطاب الذي يظهرها كيانا منفصلا عن المجتمع وراغبا في الحرب، فالشرعية لكل المجتمع وليس لأطراف فيه ضد طرف أو أطراف وعليها أن تنتج خطابا ينشد السلم لكل المجتمع وأن تكرر المحاولة تلو الأخرى وأن تكون هي الأحرص على إنهاء الحرب. إن الشرعية الحقة هي شرعية السلم المجتمعي كافة، ولا يجب أن تعلو في خطابها أي نبرة ضد فريق داخل المجتمع حتى لا تبرر لهذا الفريق أن ينتج خطابا مضادا لها بنفس المستوى، وعليها أن تقدم من خلال خطابها المثال الذي يحتذى وألاَّ تغلق الأبواب أمام أي فرصة لإنهاء الحرب. فالشرعية هي تلك التي تنتج خطابا حريصا كل الحرص على السلام وهي التي تحث المجتمع على الممانعة ضد الحروب الداخلية لا أن تشجعه عليها. (4) أما الطرف الذي أنتج خطاب الحرب في ظروف معينة سماها "مظلومية" فعليه أن يدرك ما يلي: أولاً: إن السلاح قد يوهمه بالحل، وقد يحقق له بعض الرضا الذاتي لكنه لا يمكن أن يحقق له القبول في المجتمع. ثانياً: إذا كان إنجازه في الحرب لجماعة أو لفئة فإلى متى سيظل هذا الإنجاز لهذه الجماعة أو لهذه الفئة دونا عن بقية المجتمع؟ ثالثاً: إلى متى سيظل معزولا بانتصاراته المتوهمة؟ رابعا: إلى متى سيظل مشدودا إلى السلاح وهو يعلم أن السلاح إذا حقق له بعض الإخضاع فمن المستحيل أن يحقق له ولو قليلا من الإقناع. خامسا: أي خوف من السلاح سينتج مع الزمن سلاحا مضادا وسيجعل العلاقة قائمة على أساس الغلبة لا على أساس الشراكة، والمتغلب اليوم سيكون مغلوبا غدا أو بعد غد. (5) أما أولئك الذين يحسبون أنفسهم على الثقافة ويلعبون دور طبول الحرب: إذا كنتم ترون أن مسئوليتكم المجتمعية هي التحريض على الحرب وتمجيد رموزها وإذكاء أسبابها وتعميقها في النفوس وترون أن الدعوة إلى السلام هي خارج الواقع وهي من قبيل التجريد أو هي من قبيل قول الشيء ونقيضه في وقت واحد فيا ليت شعري أي فرق بينكم وبين ضباع الغاب. إلهي! إذا كنتَ أعطيتَ للبوق صوتاً يباهي به دون أدنى حياء فلا بأس أن تمنح الضبعَ قامة! وحاشاك يا ربُ سخريةً من جروحي؛ تفيض عليهم ببعض التفاتي؛ وتمنحهم من خيال حروفي قلامة!