ما لا يمكن تجاهله أن الأنظمة العربية البائدة أرست سياسة اللعب على التناقضات، لا بل خلقها إذا استدعى الأمر ذلك. وهذه مأثرة أرساها نظام السادات؛ ثم تعممت على الأنظمة العربية، لقد ظلت مصر تصدر تجاربها حسنة كانت أم سيئة منذ نصف قرن أو يزيد. حيث تكشف وقائع عديدة , آثر سقوط الأنظمة تشابها مُلفتاً بينها. لقد ظهر جليا أن هناك تحالفا جليا بين نوعين من الاستبداد, رزحت تحتهما الشعوب في المنطقة العربية، الاستبداد السياسي من جهة, واستبداد ديني يعضده ويسنده من جهة أخرى، وعلى الرغم أن الاستبدادين يختلفان شكلا، لكن الاستبدادان في المحصلة النهاية ألتقيا عند نقطة مشتركة؛ هي معاداة الحرية. الاستبداد السياسي صادر حرية الناس تحت مسوغات شعارات ديماغوجية خلقها عقل قومي واهم ونرجسي سيطرت عليه ثقافة أبوية بطريركية تقوم على الوصاية، أي تقديم النصح "فيما يجب وما لا يجب عمله" هذا يجوز وهذا لا يجوز، ليس هذا وحسب، بل تعداه إلى الإنابة في إتخاذ قرارات مصيرية تمس حياة الناس، بمعنى أخر مصادرة إرادات الناس الإرادات الجمعية وتكثيفها في إرادة فردية، يمكن أن يكون الفرد شخص أو حزب أو تنظيم. لقد رزحت الشعوب العربية تحت نير الاستبدادين، السياسي والديني سنين. عاشا خلالها فترة عسل جمعتهما قواسم مشتركة قبل أن يفترقا, وتقاسما كعكة الحياة أو بصورة دقيقة تنازل فيها الاستبداد السياسي للاستبداد الديني عن حصة من كعكة الاقتصاد مكافأة نظير خدمات يؤديها الثاني للأول, تقف مهمة تغيب وعي الجماهير وشل إراداتها في صدارة المهام المنوطة به, وذلك من خلال تكريس وشرعنة ثقافة قدرية، ولم يدر بخلد الاستبداد السياسي أن الاقتصاد والمصالح ستولد تناقضات مع الوقت يمكن أن تقود إلى صراع بينهما. ولم ينفرط عقد التحالف بينهما إلاّ عندما كبرت المصالح الاقتصادية وتصادمت أيضا وباتت مهددة لبعضهما البعض، وكانت تظهر بين الحين والأخر خلافات. على الرغم من وجود اتفاق ضمني على قضية أساسية؛ تتمثل في مصادرة حرية الناس، لأنهما يدركان أن هذا الأمر يضمن لهما تمددا واستمرارية، لذا طال أمد الاستبداد، ومن حيث يدري أو لا يدري خلق الاستبداد السياسي وريثا شرعيا له يتمثل بالاستبداد الديني، ونتائج العملية السياسية الأخيرة في غير بلد عربي تبرهن على ذلك. لقد ورث الاستبداد الديني الاستبداد السياسي، وعلى الرغم من أن الوراثة لا تحمل شرعية حقيقية ولها ظروفها، وخلافا لشرعية الاستبداد السياسي الذي جاء على ظهر دبابة "إنقلاب" أو فوهة بندقية "ثورة تحرير وطني"، فإن الاستبداد الديني جاء محمولا على ظهر جماهير متعبة ومنهكة، راودها بشعارات مست وترا حساسا لديها من قبيل الحرية والدولة المدنية ودولة المواطنة، وهذه المطالب تأخر العرب حقا في إرساءها وهي مخارج عملية أثبتت نجاعتها في كثير من الدول، وفيها علاج لكثير من المشاكل التي تعاني منها شعوب المنطقة. أن أس وجذر مشكلة العرب يتمثل بإرادوية فردية مفرطة جرى تكريسها، يمكن أن نطلق عليها إرادوية اختزالية، تختزل الإرادات الجمعية إرادات جموع الناس بإرادة فردية من خلال عكسها في مفاهيم مثل الزعيم الضرورة أو في أحسن الأحوال الحزب ضمير الشعب. لقد جرى تبعيض الإرادات واختزالها؛ بحيث صار لدينا إرادات جموع الناس المعطلة، وإرادة فرد زعيم أو حزب مثلا, الفاعلة، لكنها فاعلة بالمعنى السلبي. بعد أن وصلت هذه الأحزاب الإسلامية للسلطة، ولا يهم كيف؟ السؤال الآن هل تدرك أن ممارساتها السياسية السابقة التي شرعت وبررت في كثير من الأحيان للاستبداد السياسي خلقت صدمة لدى البعض منها كأحزاب ترفع شعارات إسلامية ولا ينبغي أن تغتر بالنتائج المحققة, لأنها ليست تعبير حقيقي عن حجمها, بل ناتج عن فراغ سياسي, وإفتقار المجتمع لقوى تملئ الفراغ ، كما خلقت في بعض الأحيان موقفا من الدين أيضا لا يمكن مداواته بفتاوى التكفير وخنق الحريات وتكميم الأفواه، بل من خلال المزيد من القوانين التي تطلق الحريات, وتحقيق المطالب المشروعة التي وعدوا بتحقيقها وأوصلتهم إلى السلطة. هناك مطلبان ملحان لا يحتملان التسويف أو المراوحة أو المراوغة بهما، لأن تجاهلهما لن يصيبا أحزابهم بمقتل, بل يمكن أن يصبا أيضاً روح الأمة, أي"الدين" . أن إقرار الدولة المدنية والتشريع لها, تحتاج قدراً بالغاً من الشجاعة والجسارة، والإقرار بتحديد مفهومها الذي يعكس دلالتها دون مؤاربة أو تلفيق، فلنكن صرحاء, الدولة المدنية بألف لام التعريف لا تستقيم ليس مع الإسلام وحسب، بل مع كل دين أو معتقد أي كان هذا المعتقد. لأن الدولة المدنية تعني دولة المواطنة لا دولة الرعية، دولة عمادها الحقوق، دولة تعترف بالتعدد والتنوع وترعاه، دولة قلبها التسامح الديني, ومعيار التسامح يقوم على فكرة أتفاق الأفراد على "أن يعيشون ويتركوا غيرهم يعيشوا" والتسامح يكون في بعض الظروف خطوة أولى نحو تحقيق الاحترام المتبادل. إذ تتحقق بواسطته في الدولة المدنية قيم كثيرة أهمها الاحترام المتبادل. وينبغي أن تدرك الجماعات الإسلامية الحاكمة اليوم, إن أي محاولة لتلفيق مفهوم الدولة المدنية وإلباسها لبوس دينية أو أسلمتها, عوضاً عن الاستمرار في تكريس الاعتقاد بأنها أحزاب تحكم تحت ظلال الإسلام أو القرآن أو تكرار عبارة "الإسلام هو الحل"، لا يشكل خطراً عليها كأحزاب، بل ستكون له أثار كارثية على الدين"الإسلام"، لأن فشلها في تحقيق أي إنجاز اقتصادي وأحداث فارق, لن يؤثر عليها وحدها كأحزاب وحسب، لكنه سينسحب هذا التأثير على الدين أيضاً, ولكي يبرأ الإسلام من مصير كهذا، الكل مطالب بإبعاد الدين من المهاترات والمزايدات السياسية, وقبل الناس جميعاً؛ فإن الإسلاميين مطالبين بتأسيس دولة مدنية حقيقية، يتم فيها وضع حدود فاصلة بين السياسة والاقتصاد من جهة والدين من جهة أخرى، رأفة بالأخير من أية انتكاسات أو خسائر أو أخفاقات، لأنه يمثل روح أمة، فالأمة التي تطعن في روحها أمة ميتة.