في الجدل الدائر حول مدنية الدولة وإذا ما كان هدفا مناسبا للواقع العربي الطامح للتغيير، وما يستتبعه من محاولات البعض التخويف من الدولة الدينية، التي يمكن أن يكرسها اختيار الإسلاميين في الانتخابات حيثما تيسرت في البلاد العربية، ثمة كلام كثير أقرب إلى اللغط منه إلى أي شيء آخر، وعلى طرفي معادلة التناقض والجدل والتلاحي. فلا دعاة الدولة المدنية مدنيون على الحقيقة، يعضون على معاني الحرية والديمقراطية والعدل بنواذجهم، ولا دعاة التشدد في طرح الدولة الدينية وصولا للخلافة الراشدة، يعبرون عن صميم الفكرة العملية والممكنة للتيار الإسلامي الواسع، الداعم للتغيير واحترام إرادة الشعوب، بعد عقود من الاستبداد وتكميم الأفواه وركوب الناس بالمقلوب من قبل الحكام المستبدين. فالعملي والمقصود والجوهري، عند كل من ثار على الاستبداد والفساد ونادى بالإصلاح في عموم المنطقة العربية، هو تمكين الشعوب من أن تحكم نفسها، لا أن يحكمها أباطرة المال ولا دهاقنة الإعلام ولا رجال الدين ولا أصحاب الارتباطات بالعواصم الاستعمارية الممسكة بخناق العالم. فالغاية والهدف، كانت وما تزال، عند كل هؤلاء الثوار، أن تحترم إرادة الشعوب، وأن تحترم الحريات، حرية التعبير والتفكير وتشكيل الأحزاب والعمل السياسي، وأن تكون صناديق الاقتراع هي من يقرر واقع الناس وحياتهم، وكل شيء بعد ذلك تفاصيل. واليوم وغدا سيظل الامتحان الحقيقي للجميع، علمانيين وإسلاميين، وطنيين وليبراليين، يساريين ومستقلين، أن يقبلوا باحترام إرادة الشعوب، وتمكينها من تكون صاحبة الكلمة الفصل في كل شأن يخص حياتها، وعبر انتخابات حرة نزيهة على أساس عادل من المساواة وحرية الاختيار، تجرى ليس لمرة واحدة ثم تقلب الصفحة، ولكن تتحول إلى ممارسة دائمة، تصبح معها ثقافة العودة إلى قرار الشعب عبر الاستفتاء أو الانتخاب، سياسة ثابتة لا بديل عنها، وما تقرره صناديق الاقتراع إرادة لا تعلوها أي إرادة أخرى. هذا هو الامتحان والاختبار المطلوب من الجميع أن ينجح فيه، وهذا هو المضمون الأصيل للوثيقة الإصلاحية التي ينبغي أن لا تكون محل اختلاف بين اثنين صادقين ينشدان الخير للشعوب في المنطقة. فالعصر لم يعد يحتمل دكتاتورية فردية أو جماعية، تحت أي مسمى، وتجاهل إرادة الشعوب وكبت الحريات لن ينتج دولة رشد، بل دولة خراب، أيا من كان في الحكم، علمانيا متغربا أم عالما شرعيا متعمما. وهذا الفهم القائم على احترام إرادة الشعوب وما تقرره الذي هو موضع قبول عند مساحة كبيرة من الناس، على اختلاف مشاربهم وأفكارهم، هو جوهر الدولة المدنية الحقيقية، وجوهر الفكرة الإسلامية الصحيحة. إن دولة العدل هي مقصد الشريعة، ولا سلطة شرعية دون اختيار الناس، و"لا إكراه في الدين" منهج عمل معتبر، فكيف يمكن تسويغ الإكراه فيما هو دون منزلة الدين، من أحكام المعاملات؟! والدولة المدنية هي وعاء لتحقيق إرادة الشعب والتجاوب مع اختياراته، وليست صنما ولا أيديولوجيا، وهي إلى جانب ذلك وعاء لتنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد على قاعدة من العدل والمساواة، وليست معادية لفكر أو دين أو بينها وبين فريق من أبناء الشعب قربى أو عداوة. إنها آلية إنسانية لصياغة نظام سياسي يحترم إرادة الناس ويتوخى تحقيق العدالة والمساواة بينهم؛ ما يعني أن من يفتعلون الخصومة بين الإصلاحيين، ومن يطالبون بحريات الشعوب وتكريس الديمقراطية، على قاعدة من طرح مفردات مدنية الدولة أو دينيتها، لا يخلصون إلى فكرة الحرية والعدالة والديمقراطية، ويريدون أن يتلهى الناس عن الأهم لينشغلوا بتفصيل ليس له أولوية، ولا هو قائم في واقع الحال عند من خبر القهر والاستبداد ولا يريد العودة إليهما. دولة مدنية تعني شعباً حراً وحقوقاً متساوية وحكاماً بشراً لا أنصاف آلهة، وشريعة الإسلام إنما جاءت لتضرب من يريد أن يستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وأعلى مقاصدها في أمر الحكم إقامة العدل، وهي من ساوت بين الأمير والأجير، وأن لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى وما ينفع الناس.