في مثل هذه الليل بعد منتصفها، الساعة الواحدة والنصف فجراً في يوم 7/7/1994م، اتى والدي للمنزل وهو ذلك القائد العسكري المحنك، كانت ملامح الحزن تسيطر عليه، لم يكن يخشى شيء سوى ان يترك 6 اطفال وامهم لمصير مجهول، كان يعلم بان جحافل الغدر لن ترحمهم، صمت حائراً وهو يودعنا، "سوف اغادر البلاد، قدّر لنا ان نترك بلادنا" . كان يوصي امي بنا وهو يعلم انها لا تملك شيء لحمايتنا، تعالت صرخاتنا في المنزل ونحن نبكي كنا اطفال اكبرنا بسن الثالثة عشر ربيعاً، لم يتحمل ذلك والدي في تلك اللحظة التي كانت تدور في ذهنه كل الاهوال التي سوف نلاقها بذنباً لم نقترفه ليس الا انه قائداً عسكرياً جنوبياً، قرر والدي حينها ان نكون معه وهو لا يعلم ماهو مصيره والي اين سوف يذهب "سوف اخذكم معي والله يتولانا" ولم تمضي نصف ساعة ونحن في ميناء البحرية القريب من منزلنا بعدن، كان زورقاً حربياً يكتض بالضباط الجنوبيين، بدئنا رحلة الموت في عباب بحر العرب ولم تمضي 24 ساعة، نفذ الوقود من الزورق، ولم يكن لدينا طعام او حتى شربة ماء، كنا ستة اطفال ووالدتهم في غمرة خاصة لبحارين، كان الغثيان والدوار هو كل مانفكر فيه بسبب الامواج التي كانت تأخذ الزورق يميناً وشمالاً، وكان والدي يصعد وينزل للغمرة محاولاً ايجاد شربة ماء تنقد احد اطفاله الذي شارف على الموت بسبب الضمئ والقيء، كنت ارئ في عينيه علامات الحسرة وكأنه يقول "حاولت ابعادكم من وحوش الارض لاسلمكم لاسماك البحر تلتهمكم" .
مضت الساعات ولم يكن يتحرك في ذلك الزورق سوى ابي الذي كان يأخذنا واحداً تلو الاخر الي سطح الزورق حتى نتعرض للشمس قليلا ونتبلل بقليلٍ من مياه البحر.
شاءت الاقدار ان يكون من ركاب ذلك الزورق مسؤولا جنوبياً يحمل جهاز هاتف الثريا الذي لولاه بعد الله لكان مصيرنا وجبة غداء لاسماك القرش التي كنا نراها بأم اعيننا تحوم حول الزورق.
كان اول ما جلبه لنا ذلك الهاتف المنقذ طيارة اجنبية كانت ترمي لنا صناديق كبيرة قيل لنا ان فيها طعاماً وماءً يسد رمقنا حتى يتم انقاذنا، في صباح اليوم الثالث رمت الطائرة صندوقا كبيرا وقع بجواو الزورق، كان على بحارة الزورق ان يستخدموا امكانيات الزورق لرفع الصندوق الذي اصبح بالنسبة لنا الامل للحياة، وبعد عدت محاولات لم يتمكن فريق الزورق من رفعه لان معداتهم لا تعمل.
مضى اليوم الثالث كما سابقه ولكن كانت الحالة تسوئ وكان الامل يتضائل.
في صبيحت اليوم الرابع عادت نفس الطائرة وبنفس الطريقة رمت صندوقها الذي ذهب بعيدا ومعه كان الامل يذهب ابعد، مضت الساعات ولم يكن بذلك الزورق من يثير الضجة والازعاج سوى والدي بعد ان استسلم الجميع لقدرهم، حتى السفن التي كانت تمر في الخط البحري الذي كان عليه زورقنا كانت لا تستجيب لاشارات الاستغاثة، فزورقنا حربيا محملاً بصواريخ قد تدمرها.
في صبيحة اليوم الخامس كانت الاتصالات قد انقطعت حسب ماقيل لوالدي ولم يكن هناك من خيار سوى ان يقترب الزورق من سواحل حضرموت ليكمل من يستطيع السباحة الى الشاطئ لينقذ حياته، ومع ان هذا الخيار كان صعباً لنفاذ الوقود وقد لا يكفي لاتمام هذه العملية وقود الاحتياط، الا ان والدي كان يرى ان الموت حليفنا فمهما اقترب الزورق من الشاطئ فهو سيكون بعيداً لمسافة تصل لمئات الامتار التي لا يستطيع الاطفال سباحتها هذا اذا لم يتعرض للقصف من جحافل الغزاة القابعين على شواطئ حضرموت يترقبون اقتربنا.
في لحظات صعبه من صبيحة اليوم الخامس اقتربت باخرة كبيرة جدا قيل انها امريكية كانت ترسل اشارات فسرها قائد الزورق بانها اشارات صديقة وماهي الا لحظات واذا بقائد الزورق يخبر ابي بانه وصلت له اشارات من الباخرة انها اتت لانقاذنا، نزل ابي مسرعاً لغمرتنا وهو مازال يحمل مسدسه الشخصي على جنبه ويرتدي تلك البدلة العسكرية التي اصبح لونها كالحاً من الاملاح التي علقت بها، دخل يبشر والدتي باننا سوف ننجو فقد اتى الفرج من الله.
قام طاقم الباخرة برفعنا من على سطح الزورق بحامل يشبه ذلك الذي يحمل به الموتي، تم ربطنا فيه باحكام واحداً تلو الاخر ورفعنا بحبل، كان الضباط قد صعدوا الي متن الباخرة بحبال على شكل سلم مدت لهم.
كانت اول شيء فكرت به عندما وصلت على سطح الباخرة شربة ماء، حصلت عليها من امرأة كانت تتحدث الانجليزية اهتمت بنا وبوالدتنا.
على سطح الباخرة عادت لنا الحياة، ومازلت اتذكر ملامح والدي التي تغيرت وضحكته التي عادت، اتذكر امي التي كانت ترفع يدها الي الله وتدعوه وهي تبكي، عادت الحركة الي كل من حولنا بعد ان كانوا موتى.
على متن تلك الباخرة" باخرة الحياة" اكملنا رحلتنا لنصل الي عمان ومنها الي بلاد الحرمين.
في اول اتصال اجراه والدي لعدن بعد عدت اسابيع، كان اهلنا هناك يعدونا من ضمن الموتى فلم يعلموا عن مصيرنا شيء طيلة تلك الفترة، وعندما سألهم والدي عن حال البلاد اجابوه، لقد اخذوا منزلك وسيارتك وكل ماتملك واصبحت غنيمة لجحافل الفيد، لم تعد تملك شيء في بلادك، وما افنيت عمرك في بناءه اصبح ملكاً لقادة الحرب الشماليين.
*نائب رئيس الحركة الشبابية والطلابية لتحرير الجنوب - فرع مصر