بعد سنين طوال من الغياب، عن قريتي الريفية، بحكم ظروف العمل والإقامة في المدينة، سنين تخللتها الكثير من الزيارات بين حينا واخر، وفي صباح صيفي ممطر ، وجدت نفسي استلقي على رابية بجانب ذلك الكوخ الطيني ذو السقف المعدني الذي ترعرعت بداخله،مستمتعاً بتساقط رذاذ المطر على وجهي ،آخذاً نفسا عميقا ممزوجا برائحة المطر، مصغياً لصوت وقع قطرات المطر على السقف المعدني لكوخنا الطيني ( تك،،تك ،،تك) كأروع سمفونية موسيقية لطالما ترسخت في تلافيف ذاكراتي منذ الطفولة، ذاكرتي المتعبة والمزدحمة بضوضاء المدينة. فجأة سمعت أحد الصبية يردد من على ضفة المجرى المائي ( العبر) المار بمحاذاة القرية ( سيلوه،،سيلوه،،سيلوه) مبشرا بمقدم السيل الهادر القادم من أعالي الجبال البعيدة التي تقع في الجهة الشرقية للقرية. نهضت فرحا وهرعت نحو ضفة المجرى المائي كعادتي وعادت جميع أهالي القرية أيام طفولتي وصباي، لكنني لم أشاهد إلا بضعة صبية فقط، ولم يعد ذلك الصوت ملهما ومبشرا لأهالي القرية، حينما كانوا وبمجرد سماعهم لذلك الصوت سيلوه،،سيلوه يهرعون جميعهم رجال وشباب وشيوخ ونساء للاستمتاع بمنظر مقدمة السيل الهادر كعادتهم، فقد غزى غول التطور قريتي الريفية وحلت أضواء الكهرباء بدلا عن أضواء الفوانيس والشاشات المسطحة بدلا عن جلسات السمر الليلية في ساحة القرية، وحلت مسجات التواصل الإلكتروني محل دفء و حميمية التواصل الإنساني، وحتي تلك المساحات المشاعة بين منازل القرية ضاعت بين ثنايا الأسوار والحواجز الطينية الني أضحت تفصل بين منزل الجار وجاره، ودفنت تحتها تلقائية وعفوية وطهارة الإنسان الريفي حيث طغت الرسميات على جمال وحرارة ذلك الصفاء والنقاءالريفي. والأشد إيلاماً من ذلك تن تلك الأسوار شيدت في النفوس، قبل أن تشيد على الأرض فقد تغيرت النفوس كثيراً . نظرت نحو الجبل البعيد الذي أصبح أكثر إشراقا وبهاء وكأنه قد اغتسل بدموع تلك الغمامة التي تحوم أعلى قمته، وتخلص من ردائه الحزين والمغبر بفعل غبار الزمن، لينسل ذلك الرداء المبلل بدموع الغمامة من بين أقدامه كسيل هادر قاطعاً الغفار والفيافي عبر ذلك المجرى المائي المار بجانب القرية ليروي ظماء تلك المساحات الزراعية الجرداء المحيطة بالقرية، لتتحول بعد حين إلى بساط أخضر . عدت وأنا أشعر بالأسف لحال قريتي، واستلقيت مجدداًعلى تلك الرابية التي تقع بجانب كوخنا الطيني ذو السقف المعدني مستمتعا بتساقط رذاذ المطر على وجهي، آخذاً نفسا عميقا مشبعا برائحة المطر مصغيا لوقع قطرات المطر المتساقطة على السقف المعدني للكوخ الطيني الذي ترعرعت ونشاءت ولعبت في محيطه، كأروع سمفونية لطالما سلبت لبي حينما كنت طفلا،، (تك ،،تك ،تك تك)