هل صار من المناسب بعد هذا الوقت القصير نسبيا الحديث عن الثورات العربية من منظور النقد والتقييم؟ أيا يكن الأمر فقد فقد سال الكثير من الحبر على الورق من قبل المهتمين والاختصاصيين والساسة ذوي الشأن وغيرهم حتى من العوام الذين تؤرقهم هذه القضية (الثورة)وتعقيداتها التاريخية. .. بعد جلاء المستعمر الأجنبي عن البلاد العربية ، تسلمت الحكم أنظمة فشلت تماما خلال مسيرتها الطويلة من إنجاز القدر الأدنى من الإستقرار والتنمية والعدالة الاجتماعية ، كما عجزت بعضهاعن حماية ترابها الوطني ، والحديث هنا بأكمله يخص ما اصطلح على تسميتة ب (الجملكيات العربية )، فهذه الأنظمة لم تكن تمثل الإرادة الحقيقه للناس ، بل إن بعضها عمل جاهدا لتفكيك المجتمع بصراعات داخلية كي تضمن استمرارها على عرش السلطة أطول فترة زمنية ومؤبدة. تميزت فترة مابعد الإستقلال إلى بداية الثورات العربية بالظلم والإستبداد والتهميش والإفقار والبطالة والفساد المهول ، في حين كان الحاكم وحاشيتة يغرقون في بحبوحة العيش ورغد الحياة ينافسون في ذلك الملوك وكبار أغنياء العالم وبعضهم كانت شعوبهم تعاني من الجوع والفاقة وإنعدام الخدمات، إضافة إلى إغلاق كافة الأبواب أمام أي بارقة أمل حقيقي للتغيير. ....دعك من الإنتخابات العربية والبرلمانات فاغلبها صوري وديكوري فقط لركوب موجة الديمقراطية وهي منتجات عربية بمواصفات خاصة عيار 99.9%...لم تكتفي هذه الأنظمة (الجملكية )بذلك فقد هيمنت على منظمات المجتمع المدني وطوعت الكثير من الأقلام بالسيف والذهب. ...وسط هذه الأجواء الخانقة التي منعت أي منفذ لرياح التغيير اشتعل الغضب ومشاعر السخط في نفوس الناس وخاصة الشباب فكان الإنفجار صاخبا ومزلزلا وعنيفا أحيانا ، لقد كان ذلك (براءة اختراع )للجيل الجديد كحل معقول للخروج من هذا المربع الذي لازمناة طويلا، وقد لعبت كل العوامل التي سبق ذكرها العامل الرئيس إضافة إلى السموات المفتوحة وبعض القنوات الإعلامية التي لعبت دورا مهما في الترويج ، قبل ان يتحول الأمر إلى انقسامات وولاءات داخلية وخارجية واحتراب داخلي أفقد الثورات الشعبية بريقها الصافي النقي ، وفقدت تلك القنوات مصداقيتها وحياديتها أيضا. أخذ الغضب الشعبي العفوي في إسقاط الأنظمة تأثير (الدومينو )في تتالي سقوط الأنظمة الواحد بعد الآخر ، لكن تلك الجموع الغاضبة العفوية لم تكن خطط مسبقة أو تصورات معقولة لما بعد سقوط النظام وكان الشعار (الشعب يريد إسقاط النظام )شعارا رومانسيا ففي بعض البلدان سقطت الدولة مع سقوط النظام ، وفي البعض الآخر سقط رأس النظام وظل الجسد والأطراف وبقيت جذور الدولة العميقة تدير المشهد عن بعد. ..وساعد التدخل الإقليمي المدافع عن بعض الأنظمة في جر الثورة السلمية إلى عسكرتها ودخول التطرف البشع أخرج الثورة عن مسارها ولم يكن للعالم بد إلا أن يقف مع النظام رغم كل علاتة وأمراض الوراثة السلطوية التي ينتهجها منذ عقود... لقد كان التركيز على إسقاط الحاكم للجلوس محله والإهتمام بالجانب السياسي في الوقت الذي كان فية الواقع الإجتماعي أشد بؤسا وسوءا ، والمجتمعات العربية تئن تحت وطأة الكثير من الأمراض الإجتماعية المزمنة كالطائفية والقبلية والمناطقية والتمايز بين الطبقات والتطرف والنظرة للمرأة والفساد. ..إلخ ولذلك كان سقوط الحاكم دون أي خطة مسبقة هو عبئ إضافي على كاهل هذه الثورات وانتشرت الفوضى ، وظهرت إلى السطح كل الأمراض الاجتماعية التي ظلت مختبئة في قاع المجتمعات لا تستطيع الخروج...وبدأ المشهد فجأةوكأن هذا المجتمع أو ذلك هوعبارة عن جزر صغيرة تفتقد للجسور المتينة الحقيقية اجتماعيا وثقافيا وسياسيا. . كان لإهمال الإصلاحات الإجتماعية وعدم تهيئة الظروف السياسية الحقيقية قبل الثورات بفترة كافية سبب مهم لإنفراط عقد المسبحة في أكثر من مكان ، ودخلت تلك البلدان في نفق طويل ولازالت تعاني من الاحتراب الدموي الداخلي والتدخلات الخارجية والتشظي أسفر عن تناسخ هويات محلية جديدة بسبب العودة إلى الجذور التاريخية لحماية انفسها وسط تلك الأجواء العاصفة... ختاما ### رغم كل ما حدث تشظي ودماء إلا أن ذلك لا يعني أن الثورات العربية لم تحقق شيئا ورغم كل ما يقال عن نظرية المؤامرة ، إلا أن هذة الثورات العربية أطلقت صافرة التغيير الأولى في المنطقة ، وحملت رسالة مهمة للحاكم العربي مفادها أن الحاكم العربي وحاشيتة تحت مجهر الشعوب ولم يعد بعد اليوم نصف آلهة كما كان الحال سابقا. .. نعم كان الثمن باهضا جدا ومؤلما ، لكن هذا الثمن المدفوع بأثر رجعي لكل العقود والقرون الماضية التي أتسمت بالصمت والسكوت والخنوع. .. هل يكون هناك (ربيع )عربي قادم مزهر مستفيدا من كل الدروس القاسية والمؤلمة التي مرت؟ ؟ ؟ ؟