قفزت إلى ذهني حادثة لنا مع رجل باكستاني من البشتون. نعم الذي ذكرني هذه الحادثة الليلة هو اتفاق طالبان والأمريكيين في الدوحة. طبعا باكستان فيها عرقيات كثيرة، أشهرها السند والبنجاب والبشتون والبلوش، حتى التقسيم الفيدرالي للباكستان يتوزع على هذه الأربع العرقيات الكبرى . البشتون هم امتداد للشعب الأفغاني، وهم في الأصل أفغان وليسوا هنودا وهناك من يقول أنهم من أصل يمني، ولغتهم هي البشتونية التي هي اللغة الرسمية لأفغانستان. هناك عشرات الملايين من البشتون في شمال باكستان الملاصق لأفغانستان، وعاصمة إقليمهم هي مدينة بيشاور، وفيها أكبر جامعة دينية في القارة الهندية. وتوجد منهم تجمعات أخرى في معظم المدن الباكستانية، ولما هبطنا إلى كراتشي عاصمة إقليم السند جنوب البلاد نزلنا في حي (شيرين جناح) وهو حي يسكنه البشتون، ولقد أخبرنا أنه يوجد في كراتشي أكثر من خمسة مليون بشتوني، وفهمت من كلام بعض الشخصيات التي كنا نزورهم في كراتشي أن هناك بعض الحركات والتجمعات السياسية التي تقوم على أساس عرقي وأن للبشتون منظمة سياسية تحاول تجميعهم وتوحيد رأيهم وصوتهم الانتخابي. عندما كنت أخرج مع الأخوين (حفيظ الله وتابش) كنت أقول لهم أني أستطيع أن أعرف الرجل البشتوني بسهولة، وقلما أخطأت في ذلك. الشعب البشتوني شديد التدين معتز بعقيدته الإسلامية يحب علماء الدين ويجلهم، ولهم وجود كبير في جميع الحركات الدينية سواء كانت الدعوية أو السياسية أو الجهادية، وأتذكر أن أحد الإخوة الذين خرجوا معنا كان له ولدان يقاتلان مع حركة طالبان والثالث في السجون الباكستانية بتهمة الإرهاب. وفي جماعة التبليغ أعداد هائلة من البشتون، وكثيرا ما ألحظ أن حراسة المركز الرئيس في رائيوند هم من البشتون . وفي الاجتماع وجدت شابا يمنيا اسمه معاذ المرادي يدرس الطب في جامعة بيشاور، فأخبروني أن أكثر من نصف الطلاب في السكن الداخلي تبليغيون وأن السمة الغالبة في بيشاور وما حولها هي التدين. ولا زلت أتذكر أنه في ليلة من الليالي حصلت مشكلة في مسجدنا الذي نزلنا فيه فظننت أنهم يحتجون على نزولنا في المسجد فاستفسرت عن ذلك أخي حفيظ الله فضحك وقال : لااااااا ليس كذلك، البشتون مجانين دعوة. المهم في ليلة من الليالي خرجت أنا وأخي (تابش) بسيارة أحد الإخوة لزيارة بعض الجامعات والمدارس الدينية، خرجنا بعد العصر ولم نرجع إلا ليلا، فكراتشي مدينة كبيرة جدا مترامية الأطراف، وعدد سكانها يزيد على ثلاثين مليون نسمة، وكان أخي تابش لا يعرفها جيدا فهو من لاهور ولكنه يستخدم الجوال عبر خدمة (اللوكيشن) أو الخريطة للوصول إلى الموقع. ولأننا تأخرنا واستخدمنا الجوالات في التصوير والتسجيل لهذا نفد شحن البطاريات ولم نستطع العودة إلى مكاننا. والسيارة قديمة ليس فيها شاحن، فلم يكن لنا بد من النزول عند صاحب محل والبقاء عنده حتى نشحن جوالاتنا شحنا كافيا لنتمكن من العودة، وهذا يحتاج منا انتظارا وقفت سيارتنا عند تاجر بشتوني يبيع الأواني المنزلية وكلمناه عن مشكلتنا فرحب بنا ووضع جوالاتنا في الشواحن وأحضر لنا كرسيين لنستريح عليهما ثم أخذ يحادثنا مبتسما مرحبا، وبدون أن نتنبه كان قد غمز للعامل الوحيد الذي يساعده فأقبل ذلك العامل يحمل في يديه عشاءا فاخرا وعصيرات وشاي وحلويات ومكسرات ووضعها بين أيدينا وجلس صاحبنا يأكل معنا وهو في قمة السعادة، فلما ودعناه مشى معنا إلى السيارة وقال : إذا كنتم تجدون صعوبة في العودة إلى مكانكم سأذهب معكم أو أرسل معكم العامل، ولكننا شكرناه وانطلقنا وهو يقول : تكرموا بزيارتي مرة أخرى.