من أصعب الأشياء على الكاتب أن يتناول موضوعا يتنازعه طرفان متعصبان لا يقبلان في هذا الموضوع إلا كل رأي يوافق قناعتهم ويطابقها كليا، وفي المجتمعات البسيطة دائما يكثر التعصب والوثوقية واعتناق الرأي بقوة، وتجد المتابع يحب أن يسمع منك أو يقرأ ما يشتهي هو أو ما يعزز قناعته ولا يريد أن يسمع الحقيقة كما هي مجردة بعيدا عن رغباته، ولهذا تجده أحيانا يروي الخبر بالطريقة التي تريحه، ويحلل الأحداث حسب قناعته هو بعيدا عن قواعد البحث والتحليل القائم على معطيات ومقدمات تفضي إلى نتائج صحيحة أو مقاربة. وأنا أهم أن أكتب برز لي الإعلامي محمد الربع في حلقته الأخيرة وهو يعالج هذه المسألة ويؤكد أن المجتمع منقسم ولكل فريق قناعات أشبه بالمقدسات لا يسمح بمساسها أو الإقتراب منها. وصدق الربع فبكلمة واحدة ممكن تصنيفك أنك عدو أو عميل أو متآمر أو مسترزق تكتب لصالح جهات معينة تدفع لك الكثير من المال. والكلام عن (الوحدة المقدسة) أو (فك الارتباط المقدس) يأتي في هذا السياق، حيث يوجد الكثير من المتعصبين والوثوقيين الذي ممكن يصنفك أمثلهم طريقة أنك جاهل وغير مطلع على بواطن الأمور ورأيك عاطفي سطحي، ويضيع رأي العقلاء وتختفي كلمة المعتدلين بين ضجيج هؤلاء المتعصبين. كان هناك الكثيرون يقولون أن الوحدة تسير بطريقة خاطئة ويجب تصحيح مسارها قبل أن تنحرف كليا وتخرج من خط السير أو تصل إلى نقطة الصفر فيرجع الناس القهقرى من حيث بدؤا، ولكن كانت هذه الأصوات تقابل بالاستهجان وربما بالتخوين وتوضع أمامها فرضيات مثالية عاجية بعيدة عن الواقع، حتى كان ما كان مما أنت تعرفه، أتذكر بعد انطلاقة مسيرات الحراك الجنوبي أنه زارنا أحد الفضلاء وطاف على عدد من الدعاة وأهل الرأي، واستدعاني أنا والمرحوم الشيخ الخضر الجونة وقال : أن الشيخ فلان (وهو شيخ كبير جدا) ومعه عدد من المشايخ كلفوه بالنزول إلى دثينة وكلفوا غيره بالنزول إلى أماكن أخرى للنظر في موضوع هذه الاحتجاجات عن كثب ورفع تقارير صحيحة ومحايدة عما يحصل في الجنوب وأخبرنا أنه عائد بعد أسبوع، وخلال هذا الأسبوع كتبت له ملزمة من عشرين صفحة مطبوعة بالكمبيوتر فصلت فيها المظالم الموجودة في الجنوب والسلبيات التي جنتها الناس من الوحدة وطرحت بعض الحلول التي رأيتها من وجهة نظري مهمة وضرورية لإنقاذ البلاد من الانقسام بشرط أن يستوعب ذلك النظام في صنعاء عبر تأثير هؤلاء المشايخ، أخذ الأخ هذه الملزمة وقدمت للجنة شكلت للنظر في هذا الموضوع ثم أخبرني الأخ أنهم قرؤا ما كتبته فنحوه جانبا على اعتبار أن ذلك مبالغات نابعه من مشكلة شخصية. ومرت السنون تترى حتى وقع ما كتبته بل وأكثر منه. الحقيقة أن نظام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ونظام الجمهورية العربية اليمنية كانا قبل الوحدة يتبادلان التحريض والتشويه للآخر عبر جميع الوسائل المتاحة حتى استطاعا أن يقنعا قطاعات كبيرة من الشعبين بهذه النتائج التي يروجون لها، واستخدم في ذلك الدين والإعلام والفن، ولعلك أخي القاريء تتذكر أغنية نشوان كم في جعبتي قوارير وكم ورم قلبي من التقارير وتقابلها أغنية طاهش الحوبان نشوان كم في جعبتي نصايح وكم ورم قلبي من الفضايح ولقد بقيت آثار ذلك التحريض إلى ما بعد الوحدة، فكان الجنوبي يظن أن الشمالي إنسان متخلف جاهل قبيلي قروي عشوائي بينما يظن الشمالي أن الجنوبي ماركسي ملحد سكير، وأن النساء كاسيات عاريات في الشوارع، حتى أن أحد أبناء الشمال وصل إلى عدن في الأيام الأولى للوحدة وفي أقرب محطة لنزوله وجد امرأة عابرة في الشارع فاستوقفها وقال (الأخت قحبة ؟ ) هههههه. ويحدثني أحد أقاربي الذين خرجوا إلى الشمال مع جماعة علي ناصر عام 86م أنه خزن مع مجموعة من الشماليين فقال أثناء حديثه لأحدهم( صل على النبي ) فاستغرب الأخ الشمالي وقال : بالله تعرفون النبي؟ وكل ذلك من آثار الحرب الباردة وانتماء البلدين إلى معسكرين متضادين. بعد الوحدة مباشرة كنت في تعز وحضرت محاضرة لشيخ كبير مشهور - وكلكم تعرفونه - فتكلم على الوضع في الجنوب بكلام لا يقبله عقل حتى ظننت أنه يتكلم عن بلاد لا أعرفها، وهذا الشيح في الحقيقة كان فريسة لإعلام تحريضي على مدى عشرات السنين. في إحدى المرات تكلمت مع بعض الشخصيات الجنوبية عن موضوع الوحدة والانفصال، وقبل أن أكمل حديثي قاطعني أحدهم بقوله : أنتم عبيد حميد الأحمر. وحينها تذكرت مجلسا جمعني في بيت أحد المشايخ في صنعاء في منطقة شميلة وبعد الغداء سألوني عن حقيقة الوضع في الجنوب وعن أسباب ظهور الاحتجات، وكان في الجالسين بعض مشايخ القبائل ومحافظ إحدى المحافظات الشمالية، فشرحت لهم قصة الجنوب من قبل الوحدة وبعدها وكيف ظهرت هذه الاحتجاجات وما هي أسبابها، ولكن شرحت ذلك كما أنا مقتنع به لا كما يريد المستمعون، فما كان من أحد مشايخ القبائل إلا أن قال : والله إنكم عبيد البيض، فكنا حينا عبيدا للبيض وحينا عبيدا لحميد الأحمر. وفي إحدى المرات ألتقيت شخصية جنوبية كبيرة كانت محسوبة على سالمين فقال لي : كنت يوما أقود السيارة بسالمين وكنا وحدنا فقال لي سالمين، تعرف يا فلان نحن أخطأنا خطأين، ولكن معالجتهما صعبة للغاية وتحتاج وقت طويل وسياسة لأن الرفاق لن يتفهموا ذلك. فقلت له : فما هما؟ قال : الأول محاربتنا للدين ورجال الدين . والثاني هو قانون التأميم. ثم بدأ سالمين يحاول التراجع للخلف قليلا، ولكن كان الرفاق له بالمرصاد. قال لي هذا الشخص : استدعاني يوما علي عنتر فقال لي : صاحبك سالمين يشتي يرتد عن الفكرة الاشتراكية، في كلام طويل ليس الآن مجال ذكره. قتل سالمين وقتل قاتلوه، وسارت الأمور حتى سقط الاتحاد السوفيتي ووجدت ظروف داخلية وخارجية أدت كلها إلى 22 مايو. سأحاول أكتب بإذن الله في الحلقة الثانية من (22 مايو 1990م ) إيجابات وسلبيات النظامين قبل الوحدة، وسأكتب ما أراه صحيحا من وجهة نظري بعيدا عن ضغط المتعصبين أو رغبات جمهور المتابعين. والشيء المؤكد أن نظام الجنوب قبل الوحدة لم يكن شرا كله ولم يكن خيرا كله وكذلك نظام صنعاء. ربنا سدد أقلامنا واجعل ما نكتبه لا نريد به إلا وجه الحقيقة.