[1] منذ ظهر الحراك الجنوبي، وخاض الناس في القضية الجنوبية طولا وعرضا.. صارت لفظة (الجنوب/ الجنوبي/ الجنوبيون) هي إحدى اللوازم الضرورية في كل حديث ومقال وخطاب يتحدث عن القضية الجنوبية، وعن الحقوق والامتيازات التي يجب أن تمنح للجنوبيين أو أن تضمن لهم في الدستور والقوانين الجديدة؛ مثل التقاسم من أصغر وظيفة مدنية إلى أكبر وظيفة، ومن أصغر رتبة عسكرية إلى أكبر رتبة عسكرية.
وقبل أن يقال إن هذا أمر طبيعي لأن الجنوب كان دولة، ودخل الوحدة طرفا سياديا مقابل الشمال؛ فمن المستحسن أن نلفت الانتباه إلى أن هذا اللفظ (بالمفرد والجمع والانتساب الجغرافي) لم يكن مستخدما على الأقل قبل ظهور الخلافات بين شريكي سلطة الوحدة حول تقاسم كعكة السلطة ، والتي أدت في الأخير إلى ظهور مشروع الانفصال واندلاع الحرب عام 1994.. وبمعنى آخر فإن هذا الطرف (الذي يصر اليوم على وصف نفسه بأنه جنوبي أو كان يمثل الجنوب، ويتحمل مسؤولية تاريخية لأنه هو الذي جاء بالجنوب إلى الوحدة) لم يشترط أثناء إتمام ترتيبات إقامة سلطة الدولة الجديدة التي تمت عشية الوحدة على تقاسم كل شيء في الدولة وفق ثنائية الجنوبي/ الشمالي.. ولم يكن الخطاب الإعلامي يومها يعترف بمشروعية استخدام هذه اللفظة (ومشتقاتها) التي كادت تكون كفرا وعمالة، وعداء للوحدة! وكذلك يمكن القول إن سنوات ما قبل الوحدة في كلا الشطرين كانت تتعامل مع الآخر سياسيا وفق انتمائه السياسي الحزبي، وليس وفق انتمائه الجهوي، وهل هو شمالي أو جنوبي! فمن وافق النظام الحاكم: سياسيا وحزبيا فهو اليمني الصالح حتى ولو كان قادما من الشطر الآخر!
وفي السنوات الأولى للوحدة عندما كانت طيبة ونافعة، وفيها ما لذ أكله، وأراح ركوبه، وخف حمله؛ لم يكن المتحمسون الآن لصفة (الجنوب) يهتمون بهذه الصفة وبأصحابها الموصوفين بالجنوبيين.. وكان الشماليون: علي عبد الله صالح، والإرياني، وعبد العزيز عبد الغني، ويحيى المتوكل وأمثالهم من قادة المؤتمر الشمالي هم الحلفاء الذين سلموا لهم الدولة ورقابهم معها كما يقولون الآن؛ وليس علي ناصر محمد، ولا حسين عثمان عشال، ولا حسين عرب ولا سالم قطن ولا عبد ربه منصور هادي، ولا أي جنوبي آخر من المحافظات الجنوبية المظلومة المقصية من خارج الدائرة الحزبية التي تشارك في حكم اليمن، وكانوا يشكلون أعدادا هائلة من المظلومين والمقصين والمهمشين الذين نزحوا أو هربوا من الجنوب نجاة بأنفسهم، أو بحثا عن حياة كريمة افتقدوها في الجنوب، وعاشوا في بلدان العالم ؛ومنها الشمال؛ دون أن يجدوا أحدا من مهووسين الجنوب والجنوبيين الجدد من يهتم بهم أو يحل مشاكلهم، أو يطالب لهم بحق التناصف في الوظائف المدنية والعسكرية من منزل إلى مطلع؛ سواء قبل الوحدة أو بعدها.. وحتى بعد 1994 كانت القاعدة: من لاقى العافية دق بها أبناء منطقته!
ومن نافلة القول إن مشاكل عامة الجنوبيين التي تراكمت منذ الاستقلال حتى الوحدة لم تكن في البال الوحدوي الآتي من الجنوب الذي كان لا يعرف كلمة جنوبي أو جنوبيين، ومن باب أولى فإن هؤلاء لم يكونوا محظوظين لينعموا بحرارة الهوية الجنوبية فضلا عن أن يكون لهم من يتحدث باسمهم، ويدافع عن حقهم في المشاركة في السلطة والثروة، واستعادة ممتلكاتهم المصادرة، أو يطالب باحترام هويتهم وإنهاء تهميشهم وإقصائهم! [حتى حزب رابطة أبناء الجنوب العربي الذي يحاول أن يتصدر اليوم الدعوة للهوية الجنوبية؛ عاد ليعدل اسمه ويصير: حزب رابطة أبناء اليمن، وسمعت مرة الرئيس السابق في مؤتمر صحفي يقول للزميل محمد جسار رئيس تحرير صحيفة رأي الرابطية (وهو من المحافظات الشمالية) إنه هو الذي سمّى الحزب باسمه الجديد!].
[2] لا نظن أنه من السهل إنكار مضمون الكلام السابق؛ ولا إنكار أن إشهار سيف الهوية الجنوبية جاء مع الأزمة السياسية قبل حرب 1994، ويومها أخرجوا حتى الأغاني القديمة من إرشيف إذاعة عدن التي تستحث أبناء قبائل الجنوب باسمها للقتال دفاعا عن الجنوب.. وهي مواد إعلامية كانت من وقود المشاريع الاستعمارية القديمة (!) التي قسمت الجنوب إلى سلطنات ومشيخيات وإمارات.. ومن بعدها تعالت أصوات الحديث عن الجنوب والهوية الجنوبية حتى وصلت ذروتها مع ظهور الحراك الجنوبي.
ومن بعد الحرب، وخروج الحزب الاشتراكي اليمني من المشاركة في السلطة؛ تحول الخطاب الإعلامي والسياسي ليصير الجنوب/ الجنوبيون هم الضحايا والمستهدفين من الحرب والإخراج من السلطة حتى ولو كان معظمهم لا معزة له ولا حبل في السلطة والحرب، فالجنوب لم يخرج من السلطة لأنه أصلا لم يدخلها، والذين دخلوا وخرجوا منها بعد الحرب هم طائفة حزبية/ مناطقية/ قبلية محدودة وليس كل الجنوبيين! وفي كل الأحوال فقد كان هناك في سلطة ما بعد 1994 جنوبيون كثيرون شاركوا في السلطة والثروة أيضا، ومعظمهم لم يكونوا ليصلون إلى ذلك لو كانت الأوضاع في الجنوب استمرت على ما هي عليها قبل الوحدة! ولعل كثيرين ما يزالون يتذكرون ماذا حدث أثناء انتخابات 1993 عندما استولت الطائفة الحاكمة في الجنوب على كل مقاعد البرلمان باستثناء مقعد أو مقعدين ذهبا لمستقلين من المقربين.. وحتى الراحل/ عمر الجاوي وآخرون من الحلفاء (ناهيكم عن الجنوبيين الأعداء) فشلوا في الحصول على مقعد واحد!
وكالعادة في الجنوب فإن أبرز أسلاب الحروب الداخلية هي المنازل؛ التي كان المتصارعون قبل الوحدة يغنمونها من بعضهم فالمنتصر يستولي على منزل المنهزم الهارب من البلاد بحياته.. وقد تكرر الأمر عندما عاد المنهزمون السابقون الذين انتصروا أخيرا ليستردوا منازلهم.. لكن الأمر لم يقدم على أنه إعادة تدوير للمنازل أو هيكلة جديدة أو تداول غير سلمي لها بين طائفة معينة؛ بل قدم على أنه استهداف لجنوبيين وطرد لهم من منازلهم أو كما قال أحدهم: [مشاهد مؤلمة على مواطني المناطق الجنوبية(!) لغرباء يدهمون مساكنهم ويطردونهم منها!]! حتى حالات الفساد تحولت إلى استهداف شمالي ضد الجنوب والجنوبيين ولو كان الناهبون المزعومون.. جنوبيين: جغرافية، وتاريخا، وتربية وطنية!
وفي السياق نفسه فشا التحدث باسم الجنوب/ الجنوبيين؛ فصار أي تغيير يستهدف الإنسان الجنوبي والجنوبيين وهويتهم حتى في تهمة جديدة اسمها: تزوير تاريخ الجنوب وطمس كل ما هو جنوبي! وأقرر هنا أن تاريخ الجنوب لم يكتب وينشر بصورة لا تخضع للمحظورات الحزبية إلا بعد 1994 خاصة ، ويمكن لمن شاء أن يرجع لإصدارات مكتبة عبادي وجامعة عدن، والبيبلوجرافيا العامة اليمنية التي أصدرتها وزارة الثقافة لجميع ما نشر في اليمن خلال (1828-2000)؛ ليتأكد كم ظلم الجنوب قبل الوحدة! وكم طمس تاريخه لصالح التاريخ المقنّن الذي لا يخر منه.. جنوبي إلا إذا كان مرضيا عنه! وكذلك لم يسلم توزيع الأراضي من الكيل بمكيالين فإن كان التوزيع تم قبل الخروج من السلطة فنعم الموزِّع والموزَّع عليهم! وإن كانت بعد الشتات بعيدا عن السلطة فهي انتقام شامل ونهب للجنوب!
[3] من ناقلة القول إن كل هذه التشويهات ساندتها حملات تشويه إعلامية، وشيطنة للآخر غير مسؤولة شارك فيها حتى شماليون (ممن يبكي بعضهم الآن على الهوية اليمنية، وينددون بالفيدرالية من أساسها) راحوا يشاركون دون ملل ووعي في ضخ الأكاذيب مخلوطة بشيء من حقائق الفساد والاختلالات بزعم أنهم ينتصرون للجنوب والجنوبيين.. ولاحظوا كيف حاول البعض أن يجعل من جريمة الضالع الأخيرة التي ارتكبها ضبعان/ رجل علي عبد الله صالح (ومن فعل مثلها في تعز) كأنها فعل وحدوي أو مجزرة وحدوية قام به ضبعان دفاعا عن الوحدة!!
بالله عليكم: بأي معيار يتم تجيير فعلة ضبعان على الوحدة؟
وفي المقابل؛ فهل مسلحو القاعدة وأنصار الشريعة من الجنوبيين الذين يمارسون العنف والقتل في الجنوب وضد الجنوبيين يفعلون ذلك لأنهم جنوبيون أم شماليون؟ وهل تحسب جرائمهم في خانة الانفصال أو الوحدة؟ وليس بعيدا ما كانوا يروجونه عن الفتاوى التي أباحت اجتياح الجنوب الكافر، وكفرت الجنوبيين وأباحت استرقاق نسائهم وأطفالهم .. و ها هي السنوات تمضي ولا أحد قادر على إظهار هذه الفتاوى للعلن.. وقصارى ما يردونه أن هناك فيديو.. ولكنه اتضح أنه مشفّر مثل الإمام الغائب أو الشخصيات السرية لا يجوز لأحد أن يراها إلا المؤمنون بها.. وقد أعجبني أن مؤتمر الحوار فتح الباب للتقاضي أمام من يؤمن بجود هذه الفتاوى.. ونقسم بالله أن لو صح وجود فتوى تكفر الجنوب والجنوبيين وتستبيح دماءهم واعراضهم فإننا سنكون أول من ينضم للجنة الادعاء.. ونتبرع لها بفلوس كمان!
ومن عجائب هذا السياق أن أحدهم كتب يوما قائلا: [ لقد أفادت تقارير دولية (!) أن القصف الصاروخي الذي تعرضت له مدينة عدن أثناء حصارها لمدة 57 ساعة في حرب 1994 سجل رقما قياسيا على المستوى العالمي (!) بمعدل ثلاث قذائف صاروخية كاتيوشا لكل دقيقة!].
بصرف النظر عن حكاية التقارير الدولية وصحتها من عدمها التي نسمع عنها لأول مرة، فلم يكن هناك قناة سوى إم بي سي ومراسها المغربي(التي سخر منها العدنيون وسموها: قناة عمبصي..)..ثم من غير المفهوم كيف يتم القصف بثلاث قذائف كاتيوشا كل دقيقة!.. وهذا السلاح كما هو معروف يطلق قذائفه الثمانية أو العشرة بصورة جماعية! وفي حالة أنها ثلاث فقط فهذا سيعني بالضرورة أن الأمر أقل من المستوى العالمي؛ لأنه لم يتم استخدام كل إمكانيات عربة الكاتيوشا التي هي أقل كثيرا من صواريخ إسكود! (ما هو المستوى العالمي.. الله أعلم؟ ثلاث قذائف في الدقيقة ويقولوا: مستوى عالمي.. الله يرحم أيام المستويات المحلية في الصراعات الداخلية!).
وبحساب عدد القذائف على ذمة الكاتب الكاتيوشي؛ فإنها تبلغ (10260) عشرة آلاف ومائتين وستين قذيفة صاروخية.. فإذا أضفنا إليها أنواع القذائف الأخرى: جوية وبرية فإن النتيجة هي دمار شامل لمدينة عدن.. أو هكذا يفترض! ولأن عدن لم تكن مدينة ممنوع الدخول إليها بدءا من 7 يوليو لكل من أراد؛ فالذين وصلوا إليها ليفتقدوا أهاليهم لم يلاحظوا هذا الفيلم الروسي من نتاج الحرب العالمية الثانية.. فهذا المقدار الكبير من القذائف كان ليدمر عدن تدميرا كبيرا لا يمكن محوه بسهولة أو إخفاؤه عن الناظرين!
لا يعني هذا أنه لم تحدث خسائر لأبرياء فتلك كانت حربا وليست نزهة.. وقد سقط ضحايا وأبرياء في عدن كما في صنعاء وغيرهما.. ولكن العيب أن يستمريء البعض شيطنة أبناء وطنه إلى هذه الدرجة المقيتة من التحريض والكذب ثم بعد ذلك يتحدثون عن الصدع الوطني العميق.. والانفصام في القلوب!
[4] من هو الجنوبي إذا؟ هذا سؤال سيشغل حيزا كبيرا في حالة حدثت استفتاءات كما يطالب دعاة الانفصال في المديريات الجنوبية المقدسة.. وسيظهر باباوات يمنحون الصفة لفلان ويمنعونها عن علان.. ومن الآن يقولون: (الجنوبيون: هم الجنوبيون المعبرون عن الشعب ومخالفيهم لا يعبرون إلا عن أنفسهم!).. أي من يتفق معهم فهو الجنوبي ومن لا يتفق معهم فهو ليس جنوبيا ولا يعبر عنهم!
وأثناء أحداث الثورة الشعبية دعاني بعض الشباب من المحافظات الجنوبية ؛ممن يعيشون في صنعاء منذ الثمانينيات؛ إلى حضور حفل إشهار ائتلاف لهم في ساحة التغيير، وهناك وبمجرد أن تلي بيان الإشهار وفيه تمسك بالوحدة بعد إصلاح الاختلالات حتى قفز مجموعة من الشبان ؛يتضح من ملابسهم ولهجاتهم أنهم من المديريات الجنوبية المقدسة؛ وهاجموا الحاضرين، واتهموهم بأنهم عملاء وليسوا جنوبيين.. وصرخ بعضهم في وجوه الحاضرين: طلعوا بطاقاتكم! وكأنهم جنود في نقطة عسكرية.. وكادت تحدث اشتباكات دامية لولا أن الله ستر.. ولولا أن من أعضاء الائتلاف من كانوا أعفاطا قادرين على أن يجعلوا أعضاء حملة: أين بطاقاتكم؟ الانفصالية يرون أمهاتهم وآباءهم عرسان.. وفق التعبير الشعبي العدني المعروف!
المثال الأخير سمعته من شخص كان يحاورني في الهاتف ويتهمني (هو يظن أنها تهمة أما أنا فهي شرف عندي) بأنني من الحجرية ولست جنوبيا، وفي أثناء الحوار جاء ذكر يافع الذي جاء منها إلى عدن جدي لأمي (عبد الله عبده اليافعي.. وما يزال معظم أبنائه وبناته يعيشون في عدن، ومنهم مؤيدون لمقولات الحراك؛ ومع ذلك رد قائلا: -[أهل يافع ليسوا جنوبيين.. هم جاءوا من الشمال!]. وأنا أقول: يا ربي.. ليش أكره الانفصال!