(1) جاء وقت أحجم كثيرون عن الدفاع عن قيمة وطنية عظيمة في الوجدان اليمني هي (الوحدة)؛ التي بدت خلال السنوات الماضية وكأنها - للمفارقة- كاليتيم على موائد اللئام، وكان سبب ذلك هو خشية تجيير الدفاع لصالح النظام السابق، وفي بعض الأحيان نكاية به! محنة الوحدة لها وجهان: فقد أساء إليها مؤيدوها في السلطة باستبدادهم وفسادهم كما أساء إليها كارهوها الجدد بحماقتهم وضعف تبصرهم بمآلات الخلط الجائر بين الوسائل والمبادئ. وقد وصل الأمر بالفئة الأولى أن جعلت من الوحدة فزاعة تخيف بها خصوم استبدادها وفسادها ومظالمها باعتبارهم أعداء لها.. ووصل الأمر بالفئة الأخرى أن صارت (الوحدة) عندهم رجساً من عمل الشيطان، والإيمان بها عمالة للحاكم ورضا بالفساد والظلم! لا تكاد إساءة الفئة الأولى في حق الوحدة تختلف سلبا عن إساءة الفئة الأخرى؛ فلطالما تستر الحكام - بمن فيهم كارهو الوحدة اليوم يوم كانوا حكاماً- بالمبادئ الوطنية وجعلوها سيفاً مسلطا على رقاب خصومهم السياسيين، ومع أنه لم يسلم نظام شمولي من هذه الممارسات الحمقاء فكلهم في الهم يمن؛ لكن لا أحد جعل من ذلك مبررا لرفض الوحدة والتشنيع عليها. ومع ذلك فجرم حكام النظام بحق الوحدة يماثل سوءاً جرم هؤلاء الذين ارتضوا أن يجعلوا من وحدة وطنهم - لمجرد أنهم خسروا السلطة أو غرتهم الأوهام- ألعوبة من ألاعيب السياسة والخصومة والمكايدات الحزبية، وهو ما يعد في أعراف الشعوب والأوطان جريمة وخيانة وليس (خيارا سياسيا) كما يريدون أن يوهموا الناس به! وحتى لو قيل إن (الحكام) أساءوا بأخطائهم واستبدادهم وظلمهم وفسادهم لمعنى (الوحدة) وجعلوا الناس يكفرون بها؛ فإن العقل والإنصاف يقتضي تذكر أن الاستبداد يسيء إلى كل القيم النبيلة في الحياة الإنسانية، فهل يقتضي ذلك الكفر بها ورفضها؟ فتصير قيم نبيلة وإنسانية مثل (الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة) و(حقوق الإنسان) و(دولة النظام والقانون) وكل معايير المجتمع الحر الكريم؛ تصير مجرد (خيارات سياسية) تخضع للأهواء والصراعات على السلطة، ويحق لكل من ظُلم أو فقد حقوقا أن يكفر بها وينقلب عدوا لها طالما أن النظام تلاعب بها وأفرغها من مضامينها، وسخرها لخدمة مصالحه الشخصية والعائلية؟ ألم يتعرض مبدأ عظيم مثل (الديمقراطية) للإساءة والتلاعب بمضامينه، وتفريغه من حقيقته؛ منذ اليوم الأول للوحدة؛ حتى صارت الممارسة الديمقراطية مجرد نكتة؟ فهل كان ذلك مبرراً للكفر بالديمقراطية الصحيحة أو مبرراً للدعوة لإعادة الديكتاتورية وحكم الحزب الواحد وحكم الفرد؟ وها هو ذا الإسلام - أحد ثوابت اليمن والدولة- تتعرض العديد من مفاهيمه وقيمه النبيلة للتشويه والإساءة من قبل حكام وأنظمة في العالم واليمن منها، فهل يكون ذلك مبرراً للكفر به ونفض اليد منه؟ ألم تسيء أنظمة سابقة لمبادئ الثورة اليمنية وتحولت كل من ثورتي سبتمبر وأكتوبر إلى قطة متوحشة تأكل أبناءها حتى ترحم الناس على أيام السابقين؟ (2) وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة مجموعة أخرى من الادعاءات العجيبة التي تتمرس حول معايير ما أنزل الله بها من سلطان ابتكروها كمقياس لوجود الوحدة وتحققها على أرض الواقع من عدمها، مع أن (الوحدة) في الأساس هي عملية تتوحد بموجبها مقومات دولتين أو دول، أي تتوحد فيها القيادة أو السلطة، والقانون الأساسي للبلاد فضلاً عن توحيد الأرض والشعب.. فهذه هي مقومات أي دولة، وبتوحيدها تتحقق الوحدة.. أما الحديث عن معايير أخرى واعتبار وجودها وجود للوحدة وغيابها انعدام لوجود الوحدة فهو من قبيل تزييف الوعي بقصد أو بدون قصد. صحيح أن الظلم والفساد وعدم المساواة والفقر.. إلخ تثير في النفوس الأسى والتمرد لكن على الحكام وليس على الأوطان، وعلى أخطائهم ومساوئهم وليس على قيم الوطن الواحد والهوية الواحدة. وكما سلف، فلم يخل نظام يمني سابق على الوحدة من الاستئثار بالسلطة أو الحكم الفردي، أو المظالم والممارسات السيئة بحق اليمنيين أينما كانوا، لكن أحداً من اليمنيين لم يقل إن الحل هو بانفصال جزء من ذلك الشطر أو فك ارتباطه أو منحه حق تقرير المصير للبقاء ضمن النظام (الشطري سابقاً) أو الانفصال أو منحه فيدرالية أو كونفدرالية! لم يحدث هذا رغم أن دواعيه كانت متوفرة وأبرزها: احتكار السلطة، والتضييق على المواطنين حتى اضطر ملايين اليمنيين من الشطرين للنزوح والهجرة والهروب من وطنهم للعيش في بلاد الله الأخرى بحثاً عن شيء من الكرامة، والإحساس بالأمان، والإنسانية! في بلادنا، وباسم الغيرة على الجنوب والجنوبيين صارت كل ممارسة خاطئة رسمية كانت أو فردية مبرراً للمناداة بالانفصال بدعوى أن ذلك ينقض أسس الوحدة! وصار أسهل شيء أن يتحدث سياسي عن انتهاء الوحدة بعد حرب 1994م.. والمفارقة أنه يقول ذلك وهو يعيش في صنعاء ولديه وظيفة وأملاك فيها، وربما يكون عضواً في البرلمان اليمني، ويحمل جواز دبلوماسيا باسم دولة الجمهورية اليمنية، ويقود سيارة فاخرة عليها لوحة مرور يمنية باسم الدولة التي يقول إنها انتهت؛ ويتجول بها حيث شاء من المهرة إلى صعدة دون أن يقال له: أين جواز سفرك؟ وأين تأشيرة الدخول! هل هناك أغرب من ذلك؟ نعم.. فجراب الحاوي ملآن؛ فبعض هؤلاء لكي يثبت أن وحدة البلاد القائمة غير شرعية راح يفتري أن الشعب في الجنوب -لا ندري لماذا نسي الشعب في الشمال؟- لم يتم استفتاؤه على الوحدة عند إعلانها؟ ومع أن الاستفتاءات والانتخابات عند أمثال النظاميين الشطريين السابقين هي لعبة وأكذوبة كبيرة، إلا أن إعلان الوحدة تم عام 1990م بموافقة السلطتين التشريعيتين - على علاتهما- في صنعاءوعدن، ثم بعد عام جرى استفتاء على مشروع دستور دولة الوحدة ولم يقل يمني ولا حزب بأنه يعارض الوحدة.. والمعارضة الوحيدة التي أعلنت كانت ضد طريقة الإجراءات ورفضاً لبعض مواد الدستور! وللذكرى فقط؛ فإن أصحاب فكرة (الشعب لم يستفت على الوحدة) أصروا على القول - وفرضوا قولهم بالقوة أيام الاستفتاء على الدستور- إن (نعم) للدستور تعني (نعم) للوحدة، والعكس كذلك. وفي سبيل تأكيد أن (نعم) للدستور تعني (نعم) للوحدة قرروا أن الاستفتاء على الدستور مجرد إجراء شكلي لا يؤثر على (الوحدة) القائمة بالفعل ولو كانت النتيجة (لا)! ولماذا نعود للماضي؛ فهاهم أولاء أنصار الانفصال - والساكتون عنهم- يؤكدون الآن مفتخرين أن الجنوبيين أكثر وحدوية من الشماليين، وأنهم ضحوا من أجل الوحدة بالدولة والثروة والهوية.. حتى قالوا إن الجنوبيين خرجوا عن بكرة أبيهم للاستفتاء على دستور الوحدة وهم يعلمون أن بترول مأرب بالشمال قد نهب وشفط ولم يعد باقياً لدولة الوحدة إلا بترول الجنوب! فهل بعد ذلك يجوز أن يأتي من يقول إن الشعب في الجنوب لم يستفت على الوحدة؟ [بالنسبة لنضوب بترول مأرب.. فالحمد لله؛ فهو ما يزال أحد الموارد الأساسية للدولة بعد 22 عاما من الوحدة، وقبل بترول حضرموت كان هو المورد الأول، وعليه اعتمدت الوحدة السلمية الحضارية قرابة أربع سنوات، واستلم الجميع من قيمته: مرتباتهم، وبدل السفر، والعلاوات، والمنح العلاجية وتكاليف البرستيج، وامتلكوا أفخر السيارات والفلل، وقضوا إجازاتهم في أوربا الرأسمالية.. إلخ.. الفارق أن أحدا من مواطني مأرب لم يقل: جاءوا ونهبوا ثرواتنا وتركونا في العراء بدون كهرباء ولا مياه!]. (4) وفي سياق حملات تزييف وعي اليمنيين لتمرير جريمة الانفصال وفك الارتباط؛ زعموا أن مشروع الوحدة كان مؤامرة شمالية للاستيلاء على الجنوب وثرواته! والحقائق تفضح الادعاءات، وهي حقائق مستمدة من وسائل إعلام الوحدويين (سابقا) الانفصاليين (حاليا)، فعندما كانت الوحدة تعني السلطة وحكم اليمن كان القوم يتفاخرون بأنهم هم الوحدويون الحقيقيون.. وهم الذين فرضوا الوحدة الاندماجية على (الشمال) الذي نزل وفده إلى عدن في نهاية نوفمبر 1989م لطرح مقترح وحدة فيدرالية أو كونفيدرالية.. لكن قيادة الجنوب رفضت ذلك، وأصرت على الوحدة الاندماجية الفورية؛ بل إن رأس الجنوب يومذاك رفض مقترحاً شمالياً بوجود فترة انتقالية لستة شهور وأصر على فترة ثلاثة شهور فقط، لكيلا تتكرر تجربة اتفاق الكويت عام 1979م عندما حددت شهور ستة لإتمام الوحدة فصارت عشر سنوات! إذن لم يكن هناك مؤامرة على الجنوب وثروته.. والذين تحمسوا لحرق المراحل (وربما تهيئة الظروف لنهب ثروة الجنوب) هم القادة الجنوبيون.. أما الآخرون فقد جاؤوا بمشروع فيدرالية (هي اليوم أمل بعض الذين خسروا السلطة) وعندما لم يلاق مشروعهم القبول في البداية حزموا حقائبهم استعداداً للعودة إلى صنعاء قبل أن يفرض (علي سالم البيض) عليهم الوحدة الاندماجية الفورية، ويفتح أمامهم أبواب نهب الجنوب وثروته البترولية والسمكية. وقرار البيض الفردي كما يقال الآن - برره بأنه متوافق مع أدبيات الحزب- صار بعد ذلك قراراً جماعياً وافقت عليه اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني ثم انخرط الاشتراكيون في مسيرة الوحدة الاندماجية الفورية، وكانوا ألسنة حدادا، وأشد عداءً لكل من اعترض ليس على الوحدة؛ بل على بعض تفاصيل الإجراءات أو رفض بعض مواد الدستور.. بل يمكن القول إن الحزب هو الذي قاد عملية الدفاع الأعمى عن الوحدة الفورية الاندماجية ومشروع دستورها، وسخر كل وسائل إعلامه وكتائب صحفييه وإعلامييه لذلك. وفي أسبوع الاستفتاء على الدستور (مايو 1991م) صك الوحدويون الاندماجيون الفوريون في جريدة (الثوري) شعارهم الرهيب (الوحدة أو الموت)، وطبعوه بالأحمر - لون الدماء الشهير- في رأس الصفحة الأولى من صحيفة الحزب الاشتراكي اليمني ليحيا من حي على بينة، ويهلك من هلك على بينة، وليعلم العالم أنهم لا يرضون عن الوحدة الاندماجية الفورية بديلاً إلا.. الموت! شعار (الوحدة أو الموت) هذا صار بعد 1994م أحد الأسانيد والأدلة على تآمر الشمال والشماليين على الجنوب والجنوبيين.. ودليلاً على وحشيتهم وغدرهم بالوحدة السلمية الحضارية التي قامت عام 1990م.. مع أن الذين رفعوا شعار (الوحدة أو الموت) عام 1994م فعلوا ذلك في ذروة أزمة صراع على سلطة كانت ملامحها قد انكشفت تماماً وبأن هدفها هدم الوحدة القائمة - التي كانت تساوي الموت قبل سنوات قليلة- بينما كان صك الشعار عام (1991م) في أجواء مجادلات سياسية وفكرية حول بعض مواد مشروع الدستور، وكان مجالها البرلمان، والشارع، ووسائل الإعلام، والمساجد، ولم يعلن الطرف المعارض للدستور أنه على استعداد للموت من أجل رفض الدستور الذي صار هو الوحدة بشحمها ولحمها وثروتها البترولية والسمكية. وعندما تأكد للمعارضين لبعض مواد الدستور أن جماعة (الوحدة أو الموت) لم يرضوا بالاحتكام للشعب، وأصروا على ابتكار ممارسة ديمقراطية نادرة تجعل من الاستفتاء مجرد استئناس وليس له أي تأثير على مشروع الدستور.. عندما تأكدوا أن الأمر كذلك انسحبوا من العملية كلها، وقرروا مقاطعة الاستفتاء الشكلي، وناموا في بيوتهم سائلين الله أن يكفيهم معول: الوحدة أو الموت، وعولوا على العمل السياسي السلمي لتغيير الدستور وفق الأسس الموجودة في الدستور نفسه، ولم يطالبوا بفك الارتباط أو الانفصال بسبب ذلك!