زميلي العزيز صالح عبدالله، والمشهور باسم "الشرعية"، من محافظة أبين، وكان يومها رئيسا للنيابة العسكرية في المنطقة الشرقية، والتي يشمل نطاق اختصاصها محافظتي حضرموت و"المهره"، فاجأني بزيارته المباغتة لي، وذلك بغرض المقيل معي.. لم أكن قد أعتدت تعاطي القات بعد، بل لا زالت في تلك المرحلة أعيش قرفي منه، ولا أتعاطاه إلا مضطرا، وزميلي هذا قادم من بعيد، واللقاء معه ذو شجون، ورأيت أن ما يحمله من أخبار المحافظات البعيدة يستحق المقيل.. كما أن فترة غيابه عنّي والتي أمتدت لشهور، وهو عز الصديق، تستحق مني كثير من الاهتمام والحفاوة، فضلا عن تعاطي القات.. أحسست بسعادة أن ألتقي به بعد غياب، وأمضغ معه وريقات القات، ولم أشأ أن أتقاسم معه قاته أو فائضه.. هرعت إلى السوق القريب لشراء القات.. كنت يومها أقيم في منزل واقع بين نهاية شارع "مزدا" وسور الهيئة العامة للمياه، المجاورة لسلاح الصيانة في "الحصبة".. كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة بعد العصر.. هرعت مسرعا إلى رأس شارع "مازدا" لأشتري القات، غير أن القات كان قد نفذ، والبائعون قد غادروا المكان.. ولكنني شاهدت رجل قاعد في زاوية من الرصيف في "الجولة التي يباع فيها القات.. خلته من بائعي القات.. قلت لنفسي إن القدر لا يريد أن يخذلني مع ضيفي، أو يعيدني من السوق خالي الوفاض.. شاهدت أمام الرجل كيس نايلون محشوا بأوراق القات.. ولظني أنه أحد بائعي القات اتجهت نحوه، وقد أحسست أنني لن أعود من السوق بخيبتي مكسورا، بل شعرت أن لي في الحظ بقية.. قعدت أمامه وقلت له: بكم هذا القات يا حاج؟! فأجاب: بسبعين ريال.. لم أفكر بمساومته.. السعر استثنائي بكل المقاييس.. والقات في تلك الساعة المتأخرة لا يوجد عند رجل آخر غيره.. شعرت إن الرجل أنقذني من إحراج صديقي، وجنبني مقاسمة قات ضيفي، وأخرجني من ورطة العودة بخفي حنين.. أحسست بالامتنان للرجل.. أعطيته مائة ريال.. واستدركت بالقول له: الباقي على شأنك، وكان قد دسّها في جيبه، دون أن يهتم بإعادة أي شيء.. أجفلت راضيا عن البائع.. لم أكن أعلم أنه مجنونا، وأن كيس القات الذي أمامه، إنما هو نفايات وتوالف قات لا يُشترى ولا يُمضغ، وغير صالح للاستخدام الآدمي، بل وربما تعافه أيضا الغنم وتأبى أن تأكله.. أوراق قات متهالكة وتالفة، وبعضها قاسي ويُستصعب مضغه.. أوراق قات لفلفها الرجل من أمكنة بيع القات وزوايا وحواف الرصيف.. بعض الأوراق ربما مرت عليه الأقدام والأحذية.. حشاها في الكيس، وتعاطى منه، وجلب له الحظ زبون طيب، ليشتري منه ويمتن له.. بدأنا المقيل أنا وزميلي.. لأول وهلة لفت كبر كيس القات نظر زميلي، ولكنه أحجم عن الفضول والسؤال تأدبا وتحاشيا لإحراجي.. بدأت بإخراج بعض أوراق القات من الكيس.. كانت أوراق مفلطحة وعريضة.. بعضها مهترئ، وبعضها قاس وسميك ومتسخ.. كنت أضع الورقة على فخضي، وأمسحها براحة يدي، ثم أعطفها أربعا أو خمسا، قبل أن أحشيها في فمي.. أول مرة أشعر إن ذلك القات يستقر في فمي وقت أطول قبل أن يغادر إلى بلعومي ومعدتي.. ذكرني مشهد ما أفعله، برجل في "طور الباحة" كان معه جمل، كان الرجل يقوم بتعطيف أورق اشجار الموز وأحيانا زرع ذو أوراق عريضة، حتى يصيرها بشكل عصبة صغيرة، ثم يحشيها في فم الجمل.. نعم، إنه تشبيه مع الفارق.. والفارق أنني كنت أعتمد على نفسي، فأنا من يعطف الورق وأحشيها في فمي، دون مساعدة أحد.. صديقي بدأ يلحظ أن ما أفعله غير طبيعي، وبدأ يشعر بحالة احتدام داخلي مع فضوله وإحراج اللحظة، فيما كنت أنا أتصرف على نحو بارد وغير مبال، ولا يبدو عليّ أي استغراب أو دهشة وكأني أمتحن أعصاب زميلي.. حاشا أن أفعل هذا، ولكن جرت الأمور على ذلك النحو دون علمي وإدراكي أن طريقتي وما أفعله كان مستفزا.. بدأت أعثر في كيس القات على ربلات ومرابط.. أغطية متهتكة لقناني مياة المعدنية ".. كنت ما أجده أرميه على الأرض دون مبالاة، واستأنفت مضغ القات، فيما كان صديقي يعاني ويغتلي في جواري، ولم يعد يستطع ان يتمالك أعصابه، أو يمنع فضوله من التدخل والسؤال.. كل شيء كان يحدث يثيره ويستفزه.. ما أخرجه من الكيس من توالف وبقايا أشياء كان يشد الانتباه والنظر دون أن أحاول مداراة ما أفعله، ابتداء من إخراج أوراق القات من الكيس، ورمي ما أصادفه من أشياء في كيس القات، وطريقتي في التعاطي مع كل ذلك، والتي لا تخلوا من براءة وتلقائية، وأكثر من ذلك هدوئي وعدم مبالاتي وطريقة تنظيفي لأوراق القات، وتعطيفها، قبل أن أحشيها في فمي.. بعد معاناة زميلي مما يحدث، لم يستطع حبس فضوله أكثر، وأفلت سؤاله عن لجامه بعد صبر ثقيل: - بكم اشتريت القات؟!! فأجبته: هو طلب سبعين ريال، وأنا أعطيته مائة ريال.. ما كان باقي قات في "المقوات" إلا عنده.. السعر والله "عرطه".. ما كان يطفح صديقي أنني أتحدث بتلقائية وبساطة، ودون تكلّف أو مراعاة لأصول المقيل ولضيفي الذي فاض به الكيل دون أن أعلم.. لم يتحمل صديقي مزيدا من الإطراء على بايع القات وسعره و"العرطة" التي ظفرت بها منه، لقد نفذ صبره وفاض تحمّله وصار كبح فضوله غير ممكن؛ فخطف من أمامي كيس القات، وأخذ يفتش في داخله بيده وأصابعه.. ويخرج أشياء ومخلفات وقراطيس وأغطية، وفي كل مرة يخرج شيئا من الكيس كان يردد : الله الله.. الله الله ويرمي به، ثم رمى بالكيس بما فيه إلى باب غرفة مقيلنا، وهو يقول: كل شيء موجود في الكيس.. ما عاد شيء إلا الحنشان.. ثم قسم قاته، وحلف يمين أن لا أخزن إلا من قاته.. فبريت بيمينه وتجنبت سجاله، غير أن ذلك لم يمنع من قهقهتي بين حين وآخر بعد أن بدأت أدرك سوء ما فعلت.. بعد يومين مررت أنا وصديقي في رصيف الشارع الذي يباع فيه القات، وشاهدت الرجل الذي باع لي القات، شهقت ثم قلت: هذا الذي باع لي القات.. هذا الذي باع لي القات!! فرد صديقي: هذا مجنون!! ما تشوف القراطيس الذي فوق رأسه!! كان رأسه معصوبا بقراطيس نايلون ملونة ومرابط أخرى.. فقلت لصديقي: يا أخي أنا أصلا ما كنت مركّز على رأس الرجال.. أنا كنت مركّز على القات.. فانطلقت قهقهتنا رغم إرادتنا كصوات رشاش، استرعت انتباه المارة.. ألتفت البعض إلى مصدر الصوت مستغربا ، ومنهم من توقف لبرهة.. ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، يتبع.. بعض من تفاصيل حياتي..