كتب / أنيس مجمل السلام عليكم: أخي أنيس عظم الله أجرك في الدكتور ياسر.. ليتك لم تتصل.. وليتني لم أرد.. بل ليتني لم أكن موجودا في هذه الدنيا لأسمع هذا الخبر. خبر جلل.. وفاجعة مدوية ألقت بكاهلها على سمعي, وجثا ثقلها على قلبي, وإذا بعيني التي أعرف جفوتها عن إخراج القطرات تفاجئني بسكب العبرات, وإذا بقسوة قلبي المعهودة تتلاشى حتى أكاد أسمع أنين فؤادي.. حينها أشعرتني دموع عيني بطفولة قلبي الذي فقد أعز الناس لديه. ما عساي أن أقول في علم من أعلام الأمة، وعالم من علماء المسلمين, بالتأكيد لن آتي بجديد لا يعرفه أحد عن علامة الأصول وشيخ الفقه ومعلم الأخلاق الدكتور ياسر عتيق.. شيخي الكريم وأستاذي الفاضل بل وأبي المربي.. الذي رأيت فيه من الصفات ما لم أره عند غيره, وحسبي بضع كلمات تذكيرا لمن يعرفها عنه, وإخبارا لمن لا يعرف الدكتور ياسر. عرفت الدكتور ياسر منذ ثلاثة عشر سنة مضت فيه من الخصال الحميدة والشيم الكريمة التي لا توجد عند كثير من علماء هذا الزمان...فهو: عالم محقق: في علوم شتى، شغل وقته بالعلم (قراءة وتدريسا وبحثا).. لا زلت أذكر ذلك المجلس الأسبوعي في بيته الذي كان يحضره طلبة علم من مختلف التوجهات (أحدهم يقرأ جمع الجوامع في الأصول.. وآخر يقرأ منهاج النووي في الفقه.. وثالث يقرأ إكليل السيوطي في التفسير.. ورابع يقرأ فتح العلام لزكريا الأنصاري في أحاديث الأحكام.. وخامس وسادس) فيعلق الدكتور ياسر على كل ذلك حتى يقول قائلنا من أين أتى بهذا العلم الغزير والدرر النادرة.. يتكلم في كل فن وكأنّه تخصصه الذي فرغ حياته لأجله.. وبين كل درس يفتح المجال للحوار والنقاش مع حسن الاستماع والإنصات وكمال الأدب في الرد والتوجيه. عامل بعلمه: لم يكن العلم عند الدكتور ياسر مجرد معلومات تردد.. ولا محفوظات يُتفاخر بها.. بل: كان علمه عملا بينه وبين ربه تعبدا وتنسكا.. كان علمه سلوكا بينه وبين الناس أخلاقا وتواضعا.. كان علمه شجاعة وعزة نفس: فلم يداهن ظالما من الظلمة، ولم يتملق لمستبد من المستبدين، ولم ينافق كل منحرف مبدل ومغير لدين الله سبحانه.. كان علمه إخلاصا وصدقا... فلم يطلب الدنيا بعلمه، ولم يسعَ للمناصب والجاه بفقهه.. كان علمه محبة وعطاء؛ فقد كان قلبه مفتوحا للجميع فلم يكن متحزبا لطائفة، ولا مواليا لحزب بل محبا للجميع وواقفا مع الجميع.. كان علمه رحمة وشفقة فقد كان متأثرا لأحوال الناس، مساعدا لكل محتاج، وسائلا عن حال كل من يعرفه، وفاتحاً لقنوات التواصل مع الجميع ... *كان علمه كذلك وكان عمله فوق ذلك من خصال المتقين وصفات الرجولة وشهامة الأبطال. الشيخ المربي: التربية عند الدكتور ياسر لم تكن درسا يُلقى، ولا كلمة تُقال.. بل كان قولا وعملا.. سلوكا وعلما.. فمن يعرفه ويجلس معه حتما سيتفيد منه علم تزكية وتربية، وسيخرج منه بفائدة سلوك وعمل.. وسيتعلم منه أدب الحوار، وصلاح القلب، ومحبة الخلق، وصفاء السريرة، وحسن الأخلاق، واستيعاب الجميع، وصدق التواصل، وكمال العدل والانصاف... تعلمنا من الدكتور ياسر: تقديس الحق لا الأشخاص... تعلمنا منه أن المبادئ ثابتة لكن البشر قد يتغيرون.. تعلمنا منه أدب الخلاف حين الاختلاف مع الآخرين.. تعلمنا منه أن العلم هو الأدب هو الأخلاق هو العمل هو تحسس أحوال الناس والوقوف معهم هو التواضع هو الرحمة. الأب الحنون: كان الدكتور ياسر أباً ناصحا رحيما شفيقا.. ينصح طلابه نصيحة الأب الحريص، ويصفح صفح الأب الحنون.. ويكرم كرم الأب الرحيم، وفي الملمات تجده في المقدمة (سائلا ومساعدا وباذلا) ولا أنسى ذلك الاتصال الذي هاتفني به وقال: أولاد فلان هم أولادي حتى يخرج أبوهم من سجون الظالمين، ولا أنسى صولاته وجولاته في الدفاع عن ذلك المظلوم في المجالس اذا ذكر بسوء دفاع الأب المكلوم الذي لا يبالي بالعواقب في سبيل براءة ولده.. ومن كمال أبوته: أنّ كل من دخل بيته يجد كرم الاستقبال وحسن الضيافة، وبساطة الحديث بلا تكلف ولا تنطع.. تجلس معه وتشعر أنك المحبوب الأول عنده, يواسيك بكلماته, ويسليك بحديثه وكأنه ليس معه في الدنيا محبوب إلا أنت. المسلم الواعي: عرفت الدكتور ياسر واعيا بواقعه، عاملا بعلمه ووعيه.. لم يكن درويشا يضحك عليه الظالمون.. ولم يكن متملقا يستفيد منه المستبدون.. بل كان عالما شرعيا حقيقياً وواعيا سياسيا فقهياً.. كان شجاعا في قول كلمة الحق ومقداما في مواقف الشرف.. كان ناقدا لكل موقف مخزي وفكرة مخالفة وسبيل ظالم... يتحرق قلبه لمصائب الآخرين.. ويتألم فؤاده لمحن المسلمين.. وينطلق قلمه ولسانه في قول الحق والدفاع عن كل مظلوم ورد وشاية كل حاسد, ومبغض.. لم يخف يوماً ما من رصاص الغدر أن يتكلم في المنابر العامة عن أوضاع الناس.. ولم يمنعه معتقلات الظالمين أن يدافع عن المظلومين.. ولم يوقفه جبروت المستبدين من الحديث عن الجرائم التي ترتكب في اليمن بشجاعة وصرامة..وفوق ذلك لم يهرب من واقعه ولم يهاجر من بلاده بل ظل باقياً ثابتاً حتى لقي ربه سبحانه. ذلك هو العالم العلم الدكتور ياسر عتيق (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا). أقبل د. ياسر عتيق على ربه وهو يحمل قلبا صافيا.. وعلما غزيرا.. وروحا طيبة.. ونفسا مؤمنة.. وإنسانية حقيقية. رحل د. ياسر عتيق تاركا خلفه ذكرا حسنا.. ومواقف مشرفة.. وبصمات صادقة.. ومحبة في قلوب الخلق كبيرة.. مات د. ياسر عتيق لكن لم يمت ذكره، وكيف يموت ذكره وهو العالم العامل الشجاع المقدام.. كيف يموت ذكره وهو الاب الحنون والمربي الصادق والشهم النبيل. كان وسيظل موته ورحليه رسالة لكل عالم صادق أنِ اثبُت فإنما الثبات على المبادئ والقيم هو لحظات رجولة بشرف يعقبها موت كريم.. تَهونُ الحياةُ وكُلٌّ يهونْ ولكنَّ إسلامَنا لا يهونْ. ورسالة لكل جبان مداهن انتسب للعلم وهو خوان أثيم أنِ ارجع الى الحق فإن الجبن والنفاق لا يخلدان صاحبهما إلا بذكر قبيح.. وأنّ الضعف والخور لا ينجيان من اتصف بهما من مهالك الظالمين.. وأن الشجاعة والإقدام والعمل بالعلم هي الشرف والكرامة والرفعة في الدنيا والآخرة. ورسالة لكل متاجر بالدين مسترزق بالعلم متفاخر بالمعلومات.. مفادها أن العالم الحقيقي هو العامل بعلمه، هو من يحمل صفة التواضع والرحمة والحب.. هو الزاهد العابد الذي لا تغره الدنيا ولا تستهويه المناصب ولا تؤثر فيه الألقاب.. هو القريب من القلوب المحب المحبوب... الصادق الصدوق.. الرحيم الرؤوف. ستبكيك شيخي نفوس كنت تسعدها.. ستبكيك أرواح كنت تفرحها... ستبكيك منابر العلم وحلقات الذكر ومجالس الصدق.. وستخلف بعدك ثغرة لا يسدها غيرك.. *ففيك من الخصال ما لم أره عند أحد غيرك ممن عرفتهم ممن انتسب للعلم والدين. ستبكيك الأرض والسماء.. فموت الصالحين إيذان بخراب الدنيا وانتشار الفتن وظهور أهل الجهل والضلال. عذرا شيخي وأستاذي وابي د. ياسر عتيق. لم أوافيك حقك.. لكنها كلمات خرجت من قلب مكلوم.. وروح لن يفارقها الحزن عليك ما حييت.. خرجت ممن كنت تسليه بقولك أنت ولدي الذي أسعد به حين ألقاه.. أعدك ان تظل كلماتك التي كنت تقولها لنا منارا ألتمس منه الهدى.. وأعاهدك ان تكون حروفك التي كنت تكتبها لي طريقا ودربا ومنهج حياة. رحمك الله استاذي وحبيبي وقرة عيني أبا محمد.. وأعلى الله درجتك في الفردوس الأعلى *(مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا). فِراقكَ مِثلُ فراقِ الحياةِ وفقدُكَ مثلُ افتقاد الدِّيم عليكَ السَّلامُ فكم مِن وفاء أفارِقُ فيكَ وكم مِن كرم