ستسمع كثيرين يخبرونك أن الحياة أيام زمان كانت آخر روقان . والحق أن هذه الحالة طالت حتى السياسة - وأقصد السياسة الدولية بالذات - والكتابة فيها والقراءة عنها والحديث حولها ، أكان ذلك بالنسبة للصحافيين أو حتى للعامة . كانت الكتابة في السياسة الدولية هي ملاذ الصحافي - خلال حقبتَيْ السبعينات والثمانينات - في اليمن ، لعوامل تتصل بتعقيدات وكمائن السياسة المحلية . وأما الفالح فينا فكان من يرتبط بالشأن الرياضي أو الأدبي والفني ، نافذاً بجلده من شراك السياسة . أما من لا يجد منفذاً الى الرياضة أو الفنون ، فيلجأ الى الخوض في السياسة - لا محالة - ولكنه يحيد عن سياسة الأقارب الى سياسة الأجانب ! والحق أن المشهد السياسي الدولي ، أيامها ، كان سهل الرؤية - أو سهل القراءة - بتفاصيله الواضحة وعلاقاته المحددة ومؤشراته القاطعة ، ابّان الحرب الباردة . فأنت اما منحاز الى المعسكر الاشتراكي ( حلف وارسو ) أو تصطف مع المعسكر الرأسمالي ( حلف الناتو ) . وبالطبع ، كان القاموس السياسي - يومها - قليل المصطلحات ومحدود المفاهيم ، نظراً لقلّة ومحدودية المشكلات أوالقضايا الاشكالية التي تتجسد في المشهد والخارطة . فثمة قُطبان كبيران يُرددان عبارات محددة ويُطلقان تهديدات محددة ويخطوان في دروب محددة بخطوات تكاد تكون معروفة المسار سلفاً ، تبدأ بنقطة محددة وتنتهي سريعاً عند أخرى أكثر تحديداً . أما الدول والتكوينات السياسية الأخرى فلم تكن سوى أقمار صغيرة تدور في فلك هذا القُطب أو ذاك . واذا اندلعت في احداها مشكلة أو أزمة من أيّ نوع ، سرعان ما تُحسَم بقبضة القُطب الذي تنتمي الى مداره تلك الدولة . وبرغم أن العالم يومها كان يرتعد من أساطير القنابل الذريّة والهيدروجينية والنووية وغيرها من المُسمّيات ، الاَّ أن ثمة ما كان يدعو الى الاطمئنان بأن الأمر ليس سوى تهديد منبري أو استعراض قوة ، وأن ذلك من لزوم ما يلزم في السياسة الدولية التي يُديرها القُطبان الكبيران بحنكةٍ ومهارةٍ فائقتين ! كان العالم قد عرف جيداً ماذا تعني الحروب الكبرى أو ما طبيعة الانفجار النووي ، فقد كانت نتائج الحرب الكونية الثانية ماثلة للعيان بكل ما لدى المرء من حواس . ولذا ، لم يكن أحد على الاطلاق مستعداً لخوض هذه التجربة الكارثية مرة أخرى البتة ، لاسيما بعد سطوع المشهد الناري الفادح للغاية في هيروشيما وناكازاكي . والأهم من ذلك - ربما - أن عدد المجانين والشياطين في الساحة السياسية الدولية كان قليلاً جداً ، فيما العقلاء - من الطرفين - أكثر عدداً وعُدَّة وشجاعة للوقوف في وجه شبح الحرب برغم ترديد الطرفين لغة البارود النووي طوال الوقت . وكنتَ اذا أردتَ أن تكون صحافياً شاطراً وأن تفهم ملامح السياسة الدولية على أصولها ، فعليك بقراءة كتب وليام جاي كار وبالذات " أحجار على رقعة الشطرنج " وكتب مايلز كوبلاند وخصوصاً " لعبة الأمم " ثم كتب أساطين السياسة والديبلوماسية والمخابرات السوفييت والأمريكان والانكليز والفرنسيس . ولما كنا نقرأ كتاباً في السياسة الدولية ، تظل دروسه ومفاهيمه ماثلة في الواقع لعدد غير قليل من السنين . حتى الموضة المتسارعة والمتغيرة لم تكن معروفة في سياسات الأمم . وكما أسلفتُ أن روقان البال الذي كان سائداً في تلك الأيام قد طال مجال السياسة أيضاً . ولذا ، كان خبر وقوع انقلاب في دولة أفريقية صغيرة - لم تسمع بها من قبل - يُعَدُّ حدثاً هائلاً يُقلق راحة غرف الأخبار في وكالات الأنباء . ذات مرة - في أوائل الثمانينات - أنقلب أحد الرقباء الأفارقة في بلده ، فأشعل ماكنات فرانس برس . ثم سقط الانقلاب بعد سويعات ، وقبل أن تتمكن الوكالة من تحرير اضافة أولى الى الخبر ! وياما مرت أيام لم يستطع المحررون فيها تغطية الحيز في صفحة الأخبار الدولية . حتى أن رئيس القسم الدولي - في جريدة تصدر في عدن - عجز عن تغطية صفحته ذات يوم ، فحاول الاستعانة بأحد الزملاء الذي ردَّ عليه متسائلاً : ليش الامبريالية اليوم في اجازة ؟ لعن الله من أقلقها !