كانت الوحدة حلما يراود قلوب اليمنيين منذ تحرر الجنوب من الاستعمار البريطاني وتحرر الشمال من الحكم الكهنوتي السلالي فضلا عما قبل هذا التاريخ، ولا أريد التعرض لأحلام وحدة اليمن وتطبيقاتها عبر التاريخ فقد أقيمت عدة دول يمنية قبل الإسلام منها من استطاع أن يوحد اليمن في دولة واحدة، ثم جاء الإسلام وتوحدت اليمن ضمن الدولة الإسلامية الكبرى فاستمرت موحدة حتى مرحلة نشأة الدويلات المنفصلة عن الدولة العباسية : الزياديون واليعفريون ودولة الأئمة الزيديين ثم الصليحيون والزريعيون والرسوليون والطاهريون وغيرها، فكانت اليمن تشهد تمزقا كبيرا كغيرها من دول العالم الإسلامي. أما الحدود التي استقرت في العصر الحديث فهي حدود رسمتها بريطانيا مع الإمام ، واستقر وضع اليمن الحديث في شطرين شمالي وجنوبي، ولكن رغم هذا التشطير إلا أن الحدود كانت مفتوحة بين الشطرين في عهد الإنجليز وكانت حركة تنقل الناس واستقرارها مستمرة. في 30 نوفمبر عام 1967م خرج آخر جندي بريطاني من عدن وكانت الجنوب حينها أكثر من عشرين سلطنة وإمارة ومشيخة فيما يشبه النظام الفيدرالي حيث أن الإنجليز تركوا هذه السلطنات على وضعها، فلم يكن هدفهم من الجنوب غير مدينة عدن، ثم حاول الإنجليز إقامة نظام فيدرالي وشكلوا حكومة فيدرالية من السلطنات المختلفة وبنوا مدينة الاتحاد(سميت فيما بعد مدينة الشعب) كعاصمة فيدرالية، ولكن الثورة تفجرت وعم الفكر الثوري العالم العربي، وكان هناك ربيع ناصري يشبه إلى حد ما الربيع العربي وبرزت الجبهة القومية وجبهة التحرير كأكبر مكونين سياسيين في جنوباليمن، كانت جبهة التحرير تميل إلى الفكر الناصري والذي بطبيعة الحال يحمل فكرة الوحدة العربية بينما كانت الجبهة القومية تميل إلى اليسار وتحمل فكرة أممية، والحقيقة أن الجبهة القومية في بداياتها لم يكن الثقل الأكبر فيها لليسار إلا أن بريطانيا قبيل خروجها أوعزت إلى الجيش أن يدعم الجبهة القومية وهو ما رجح كفة الحرب الأهلية لصالحها وخرجت جبهة التحرير من المشهد السياسي وتسلمت الجبهة القومية البلاد من الإنجليز. بقي هنا سؤال محير لماذا حرصت بريطانيا أن تسلم البلاد للجبهة القومية وهي جبهة يسارية في ظل الصراع العالمي بين النظام الإشتراكي والنظام الرأسمالي والذي بريطانيا أحد أعمدته ؟ يجيب بعض المتابعين على ذلك بأسباب عدة أهمها : حرص بريطانيا على بقاء اليمن منقسما فتسلم جبهة يسارية للجنوب سيخلق صراعا مستمرا مع نظام الشمال يحول بين وحدة البلدين، لأن البديل هو جبهة التحرير ذات البعد الناصري والذي سيخلق اتفاقا مع نظام الشمال الناصري ويعجل بتحقيق الوحدة اليمنية. وبريطانيا حريصة على بقاء الجنوب منفصلا بما يعني الحفاظ على خط نفوذها لأي متغيرات دولية قادمة. والسبب الآخر : أن تسليم الجنوب لليساريين يأتي أيضا ضمن صراع النفوذ مع الأمريكيين الذين كان لهم الدور الكبير في تصفية الاستعمار بمعنى انحصار النفوذ البريطاني والفرنسي من العالم الثالث لصالح أمريكا، فإذا ما تحول الجنوب إلى منطقة نفوذ سوفيتية فإنه يستحال أن يكون هناك أي وجود للأمريكيين وسيبقى الإنجليز محتفظين بالجنوب كبقعة محجوزة إلى إشعار آخر لعلها تفرضه متغيرات دولية جديدة. المهم تكونت في اليمن جمهوريتان على إثر ثورتي سبتمبر وأكتوبر. ففي الجنوب استطاعت الجبهة القومية تصفية جميع السلطنات والمشيخات والإمارات بالحديد والنار وضمها ضمن دولة مركزية موحدة عاصمتها عدن وقسمت البلاد إلى ست محافظاتعدن ولحج وأبين وشبوة وحضرموت والمهرة. وفي الشمال قامت الجمهورية العربية اليمنية وعاصمتها صنعاء وبدأ الصراع الإعلامي والسياسي بين الجمهوريتين جمهورية في الجنوب تنتمي للمعسكر الشرقي وجمهورية في الشمال تنتمي للمعسكر الغربي ورغم كل هذا الصراع إلا أن الشعب اليمني كان يتغنى بالوحدة ويحلم بها ويجعلها نشيدا خالدا مع كل صباح، حتى أن النشيد الوطني للجنوب هو كلمات الشاعر الشمالي عبد الوهاب نعمان، وكانت أغاني الإذاعة والتلفزيون في البلدين تهزج مغنية للوحدة اليمنية، فأيوب طارش وأحمد قاسم وأمل كعدل وغيرهم كانوا يتغنون بها صباحا ومساءا وكان الشعار الرسمي للجنوب هو : ( لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية وتنفيذ الخطة الخمسية وتحقيق الوحدة اليمنية ) . وكانت قلوب اليمنيين موحدة وأحلامهم واحدة ومشاعرهم مندمجة، وأتذكر أنها أقيمت مباراة في كرة القدم ضمن مباريات كأس آسيا في السعودية بين المنتخب السعودي ومنتخب اليمنالجنوبي فهرع المغتربون اليمنيون جميعا إلى مدرجات الملعب يهتفون لليمن الموحد حتى أنهم ربطوا العلمين معا وأخذوا يلوحون بهما في سماء جدة. كذلك كان الطلاب المبتعثون في الاتحاد السوفيتي من الشطرين يتقاسمون الحب والحياة بقلوب موحدة، ولقد أخبرني بعض الطلاب آنذاك وأنا لازلت صغيرا أن المشرفين الروس تضايقوا من حرص اليمنيين على إظهار لحمتهم فقال لهم يوما أحد المسؤولين : إذا أردتم تحقيق الوحدة فحققوها في بلادكم. ولازلت أتذكر قصيدة شاعر دثينة أبو حمحمة وهي تردد في الأعراس وتشير إلى أن اليمن بلد واحد : قال بو حمحمة طارت من النوب نوبة من شمال الوطن طارت وحطت جنوبه بمعنى أن النحلة لا تعترف بالحدود بين الشطرين فهي تسرح من بيتها في الشمال لتجني العسل من الأزهار في الجنوب. وقد جرت عدة محاولات وعقدت عدة اتفاقيات لتحقيق الوحدة اليمنية وكان أهمها المحاولة الصادقة بين سالمين والحمدي والتي أجهضت باغتيال الرئيسين. هكذا كان المزاج العام لليمنيين شمالا وجنوبا حتى توج ذلك بتحقيق الوحدة في 22 مايو 1990م. ثم جرت بعد ذلك أمور كثيرة جعلت البعض يقول (كان اليمنيون موحدين قبل الوحدة فلما توحدوا تفرقوا ) . .