من حين دُفع دونلد ترامب إلى واجهة امريكا فتحوّل من حينها كظاهرةٍ فريدةٍ من نوعها لم يألفها شعباً له تاريخ عريق مفعماً بالنزاع والأختلاف المتحجّر، ودفن لديه منذو زمن بداخل إطارٍ أنيقٍ أنبثق من بعد أزمات متكررة ساقتهُ لحربٍ أهليّةٍ إلى أن توقفت وأنتهت بمصالحةٍ واتفاق أدى لولادة مرحلة جديدة، وبدستور كتب على درجة عالية من الإتقان كان جديراً بالثقة وبمواكبة التحديات مفضياً لصناعة عصرٍ مزدهرٍ لهذا البلد. وما أن صعد كرئيس ما لبث إلا وأفسح المجال للإبرار لمكنونٍ آخرٍ بدأ يبرز على السطح، وبحالة غضب صريحة تعبر ومن حيث أمورٍ كثيرةٍ ليست للحصر عن توجه تيارٍ عريضٍ مستاء وغير راضٍ بما جُبلَ عليه من وضع، فمنذو التأسيس لإدارة شؤون هذا البلد وهو يعيش منظوي تحت مضلة إدلوجية يستشعرها تكبله وتحد من تحركاته، وما من عاملٍ مساعدٍ في يومه يتوفر له، يبث فيه روح المواجهة والتّحدي إلا كان بالصاعد الجديد للبيت الأبيض، من وجدَ فيه ضالتهُ، ليتمكّن عن طريقه أن يشغل حيّزاً معيّن يوسّع فيه بمجهوده من رقعة ما يعتقده بمطالب برجماتية تنم عن هويّة مفقودة يحاول بعثها من غياهبها، ومستمرّاً ينقب عنها في مضمارٍ يتجلى بحدود المحافظة على تفوّقه العنصري الإستعلائي دون النظر إلى مادونهِ إلا بما يتفق مع رغبةً تبقيهُ متفرداً بالأسبقيّة في كل شيئ، وبصورة يُضهر فيها مواكب لعصر الانفتاح والتحديث ويعتبر بلده فيها رائده وركنه القوي والأساسي، وجانباً آخراً يستحضر من ماضيه السحيق ديكتاتورية متشبعة بالصراعات وبالأنقسامات والإختلاف.
وعلى هذا الأساس يبدو أن جزءاً كبيراً من فئات الشعب لم يكن بمعزلٍ عنه كضاهرة عابرة يمكن لخصمه التقليدي أن يتحاشى تأثيرها بشكل مريح وعادي وبمجرد إنقضى فترة رئاسته، فسواءً قطع عليه طريق مستقبله السياسي كلاعب يتمتع بالقوة والصلابة، او تم نقل السلطة عنه بصوره إعتيادية ليتمكّن من مواصلة دأبه في ذات الطريق، ففي إتمام أياً من الحالتين له بمقتضى ذلك سيبقى يحضى بقدر عالي من التأيد والأهمية، شاء من شاء وأباء من أباء، وفي المظور القريب إلى البعيد وفق هذا النافذة سيغدو التعامل مع مساره أمراً ما منه مفر.
فترامب لم يعد هو ذلك العنصر بطبيعتهِ المثيرة للجدل يعمل بشكل يضمن له التموضع في إطار مصالحه ومصالح حزبه كأي عضوٍ يصعد..فيصعد ثم يتراجع دوره ليخفت صوته، بقدر ما هو صار من حيث الدلالة الرمزية يتعمق فكرياً، وإدلوجيياً ويتهدد بثوابت عديدة للولايات المتحدةالامريكية من ضمنها إذا دعت الضرورة إستنساخ الحزب الجمهوري نفسه إلى حزب ترامبي الهوى والملمس.
لذلك من هنا تُصبح امريكا على مستهلِ منعطفٍ خطيرٍ، بشارع مقسم إلى نصفين بين من يُقبّح ترامب ويلومه، وبمن يثني عليه ويقف إلى صفّه، كتحديات بدأت بوادرها تلوح في الأفق، بل وأضحت واقعاً متعايش، وتحت تصرف تيارين سياسين معترف بهما، واحد يقود الحداثة اللبراليّة مجتمعاً، والآخر يتموضع حالياً في آتجاهين غير متناغمين، منهم يهوى الأنطلاق كعادته من الردكاليّة المحافظة، ومن يشذ ويذهب للبحث متجاوزاً فروعها إلى أصول نشأتها الأولى، وبهذا التشابك والتقاطع ما يلبث الأخير وسط عجزه التام عن تمرير أجنداته، إلا أن يأخذ طريقه إلى عنف غير مسبوق، وبذلك صار يمهّد لأزمات قادمة سيشهدها هذا البلد، وإن أتيح له الاستمرار والمتابعة سيحوّلها إلى تركيبة معقّدة ذات إثارة دراميّة كبيرة.