جريمة القتل التي أودت بحيات الشابين خالد الخطيب وحسن أمان, سلطت أضواء كاشفة على حالة الإحتضار التي يعاني منها مشروع الوحدة, المشروع الذي يحاول البعض ترميمة ب (ميك أب) الكلام أمام الميكرفونات, وبالوعود العرقوبية الحوارية داخل القاعات.
فالإفرازات الواضحة بل والمستفزة لحالة التنافر الثقافي بين المجتمعيين الجنوبي والشمالي إختزلتها جريمة القتل التي أرتكبت على قارعة الطريق بدم بارد, وتعمُد القاتل مواصلة حياته الطبيعية وكأنه ذبح خروفين ومنتظر الطباخ لإعداد وجبة من طبخة ال(كبسة) أو ال(فحسة) من لحم أمان والخطيب لتقديمها لبقية حراسات ال (بوس), الشيخ وإذا ما تلحموا و(تعرشوا) يمكن توزيع البقية على حراسات وزير الداخلية وقيادات حزب الإصلاح.
إستهزاء ثقافة القتل الشمالية بلغت أشدها بقدوم الشيخ راعي جريمة القتل المزدوجة, الشيخ المؤمن الذي يسير بحذر حتى لا يتعثر بلحية بيضاء تخالها تقطر دموع من خشية إلآه العدل ورب الحق فيما تقطر دم المغدورين, قدوم الشيخ الى الفندق بفجاجة يوم أمس لمواصلة الحوار مع أهل القتيلين. ليس الحوار من أجل القصاص من القتلة, وأنما من أجل إستحداث فقرة في قانون مرور الوحدة تسمح لحرس شيوخ وأعيان الشمال هدر دم الجنوبي إن حاول تجاوز موكب الشيخ, عائلة الشيخ او أقارب الشيخ.
صحيح إن كنت لا تستح ومستقو بالسلاح أيها الشيخ الشمالي فإفعل بالجنوبي ما بدى لك طالما جاء الى عاصمة قبيلتك وحزبك للتحاور حول توحده معك. مع ذلك, لا تأخذك العزة بالإثم ايها الشيخ, إن كنت قد حققت إختراق بإقناع أحدى الأسرتين بدفن أبنها وأقنعتهم بالدعوة لعدم تسيس الجريمة فإن في ذلك تراجع عن نصف الحق الخاص, وهو حقهم لا جدال, أما الحق الجنوبي العام فلن يتأتى إلا بالقصاص من ثقافة القتل, القصاص من غرور الألغاب والأحزاب, القصاص من وحدة الظم والإلحاق, القصاص من الهمجية الإجتماعية والتخلف الثقافي, القصاص للدين الإسلامي الحنيف من كل من عَدهُ مجرد لحية, سجدة وسلاح بتوافر أضلاع هذا المثلث يصير مال ودم الأخرين له مباح.
أما مبررات الشابان المغفور لهما بإذن الله, الخطيب وأمان للتجاوز المروري إن كانت ماتت معهما فقد خلفت مجادلة شمالية رسمية وشعبية تبريرية مستمدة من ثقافة القبور. ثقافة تُعَرف القتل بإنه مجرد فعلة من أفعال الحماسة الزائدة ودفق من فيض الأحاسيس بصون العرض, أي أن القتل كان رداً لفعل وليس مُبادراً به, والبادىء أظلم, أياَ كان الفعل ففيه علة القتل المزدوج. وبما أننا مدعوون للإنجبار لوحدة أثبتت تجربه التراضي (90 - 94) فشلها الذريع وإستحالة إستمرارها بقوة الحرب والقتل (1994 -2013) فالدعوة تقودنا الى التساؤل كيف توحدنا مع ثقافة القبور هذه؟
لجيل الشابين وللأجيال اللاحقة لا بد من الإشارة الى أن الفكرة تشكلت رهاناً على من كنا نعدهم تنويرين. الهاربون بسياستهم من الشمال الى الجنوب, خلال العقود السابقة للوحدة الذين كانوا يُعرفون ب(حوشي وجوشي) الا ان الوحدة اكدت لنا بانهم لم يكونوا سوى أمن (خميس) و ( قَمش) الا من رحم ربي. هؤلاء كنا نحتسبهم اوتاد الوحدة التي ذهبوا بنا اليها, ولكن هيهات فبعد إن أوقعونا في ال (حفرة) تعاملوا معنا كجنوبيين في الشمال وعندما يعودون لمواصلة إستثماراتهم في الجنوب صرنا في نظرهم: هنود وصومال, بالرغم إننا لم نك نعاملهم كشماليين عندما كانوا بين ظهرانينا, ولم يك لهم أي تعريف آخر سوى إنهم موطنيين شأنهم شأننا إن لم يك أكثر. مواطنون لهم ما لنا في الوظيفة, السكن, المنحة الدراسية وحتى الحق في رئاسة جمهورية الجنوب.
ومع إننا في الجنوب نُساق هذه الإيام جملة وقطاعي, للأنحياز للوحدة تحت عنوانيين رئيسين, أولهما زوال نظام صالح التسلطي, وثانيها وعد بإستبدال نظام الدولة من البسيط (السائد) الى درجة من درجات التعقيد في النظام ال (الفيدرالي), من الناحية النظرية لمبرري التسويق هذين وجاهتهما ولكن تجربة عقدين ونيف من الزمن تستوجب مقارنة إجتماعية مع المكون الإجتماعي المدعون لتجذير التوحد مع أفراده.
فالفرد في الجنوب مواطن (عامل, موظف, جندي و فلاح) لا فرق الكل سواسية أمام القانون, وفي الشمال الفرد قبيلي (أجير, موظف,حارس او رعويي). أي في الجنوب مواطن وفي الشمال رعوي, والمواطنة عندهم درجات متفاوتة. في الجنوب الجندي ياتمر أولاً وأخيراً لقائده المباشر والجندي في الشمال ياتمر أولاً لقائده المباشراً وأخيراً لشيخ قبيلته. في الجنوب عباية الوطن تجمع الجميع وفي الشمال عصبية القبيلة تتفوق على غيرها من العصبيات من هذه المنطلق وعلى هذه القاعدة لا إتفق مع أي شكل من إشكال الوحدة المتداولة في الشارع السياسي للوحدة. فهكذا وحدة لا تعني سوى إيقاف الزمن لقرن فوق الربع المهدور لتتوافق ثقافة القبور مع ثقافة المواطنة.