لم يكن حدث الإسراء والمعراج حدثاً اعتيادياً وإنما كان نقطة تحول مفصلية في حياة النبي محمد خاصة وفي مسيرة دعوته بصورة عامة . وقع حادث الإسراء في ذلك العام الذي سمي بعام الحزن وهو العام الذي فقد فيه الحبيب أهم سندين يستند إليهما في دعوته (زوجه الطاهرة خديجة ذلك الحضن الدافىء الذي كان يأوي إليه مما يجده من عنت قريش) ( وسنده الآخر هو عمه أبو طالب الركن الحصين الذي كان يمنع عنه أذى المشركين ) مما حدا بقريش أن تؤذيه إيذاءً جسدياً مباشراً.. فاضطر للخروج إلى الطائف فكان حاله هناك كقول الشاعر : كالمستجير من الرمضاء بالنار . فهناك رجموه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين.. وبصعوبة بالغة أفلت منهم فعمد إلى ظل شجرة يستظل تحتها فحملق بناظريه إلى ملكوت السماء... فسرعان ما جاءه غوث ربه بهذا الحدث الضخم الذي كان بمثابة البلسم الشافي الذي مسح متاعب الماضي وآلامه وجراحاته , وأتعابه , ورسالة تطمين لقلبه المكلوم , وبارقة أمل لنجاح رسالته, وتعويضاً عن جفوة الأرض بحفاوة السماء , وعن قسوة عالم البشر بتكريم الملأ الأعلى فكانت تلك الدعوة السماوية تكريما للرسول ودليل على مكانته وعظمته وعلو شأنه . لذا كانت قصة الإسراء خصيصة من خصائص نبينا محمد ..هذا النجم الانساني المتألق, هذا النور المتجسد لهداية البشرية الحائرة ,هذا الفيض الإلهي المتدفق لإزالة ذلك الركام الهائل من القيم السقيمة والتصورات العقيمة والأفكار المريضة . لقد كان توقيت الليل نقطة لانطلاق تلك الرحلة السماوية والتي عبر عنها القرآن بقوله سبحانه : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً ) له دلالته وله قيمته, وله اعتباره ..إذ أنه لا قيمة للنور إلا عندما يحل الظلام حيث يرسل عليه خيوطه الذهبية فيبدده ليسفر عن وجهه الجميل البراق ومن هنا ندرك طرفا من حكمة اختيار سورة النجم لتحوي قصة الإسراء وكذا إيراد اسم الليل ليتناسق مع ذكر النجم وذلك لتكون الأية برهان نفسها على نفسها ,وتكون في شقها الآخر قد جاءت معجزة من المعجزات البيانية في القرآن . فإذا ما سمعت أن نجماً دار في السماء أو قطع من المسافات ما يعجز الحساب عن عدها فهل في ذلك من شك ؟ والحال كذلك مع النجم البشري محمد بن عبداللاه الذي قطع كل تلك المسافات من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج إلى السماء حتى وصل إلى سدرة المنتهى فعاد إلى مكه كل تلك الرحلة استغرقت جزءاً من الليل . فذاك نجم مادي ... ومحمد عليه السلام نجم بشري.. ولتأكيد حصول هذه المعجزة اختار ربنا من الألفاظ ما يؤكد وقوعها ويتناغم مع مقام الحدث (الإسراء ..الليل ...النجم) وكلها تشي بإشراقة النبي محمد فوق الزمان والمكان ليرى بغير الحواس مما مرجعه إلى قدرة ربنا سبحانه . لذا فالنبي عليه السلام نجماً إنسانياً في نوره , حيث تغلبت روحانيته على ماديته فكانت قواه النفسية مهيأة في الدنيا لمثل حالاتها في الأخرى . فهو أشبه بالهواء المتحرك والنور الساري والنجم المتألق . ومن هنا ندرك كيف أن الإنسان البسيط إذا سما بروحه درجة واحدة أعتلى بها درجات فوق الدنيا وسخرت له من المعاني والنواميس ما يجعله كأنما هو نجم يتلألأ في السماء بما يحمله من سمو الأخلاق وحسن الفعال . لذلك من حكمة الله أن جعل الرسالات في إنسان من الناس ...لكنه إنسان آخر هو أقرب إلى الملائكة في روحانيتها.. تلك الصفات التي تمكنه من أن يتألق كالنجم فيمد سنا نوره إلى الأرض ليضيء الطريق للحيارى ويهدي التائهين . وخلاصة هذه الحادثة أن الوجود يرق ويشف ويستضيء كلما سما الإنسان بروحه , ويغلظ ويتكاثف ويتحجب حينما ينزل بها ويهبط في مستنقع الرذائل . كما أنها تصف الرسول محمد بمظهره الكوني في عظمته الخالدة كما رأى ذاته الكاملة في ملكوت الله . وهي أيضا إشارة إلى أن يكون قلب المؤمن معراجاً سماوياً فوق الأرض ليشهد ببصيرته أنوار الحق وجمال الخير وبساطة الحياة ...فيحلق بروحه في سماوات الإيمان الرحبة فيعلو ويسمو ويرتقي على تفاهات الدنيا الفانية .. فالقلب متى ما استنار بنور الوحي كان حياً في جسد صاحبه حياً في الوجود كله ... ومتى ما سلمت الحياة من تعقيد الخيال الفاسد لم يكن بين الإنسان وبين الله إلا أن يحيى حياة الحب والعطف والشفقة والرحمة .