يخشى اليمنيّون، وهم على حق، أن يكون الرئيس علي عبد الله صالح الذي اشتهر بصفة «الرقص على رؤوس الأفاعي»، لا يزال يضمر شيئاً ما على النسق الذي اعتمده في أثناء حكمه (35 سنة)، أو في أثناء الثورة الشعبية عليه طوال الشهور العشرة الماضية: الخداع بهدف استعادة المشهد السياسي على الأرض، من خلال توقيعه المبادرة الخليجية، من أنه سيسلّم السلطة الى الجيش اليمني وليس الى أي فريق آخر.
لا يزال السؤال في اليمن، برغم مرور أكثر من أسبوعين على توقيع كل من الرئيس علي عبد الله صالح وممثّلي المعارضة اليمنية على المبادرة الخليجية، هو: هل تتّجه الأزمة في هذا البلد نحو الحلّ فعلاً؟، وما هي عملياً فرص نجاح هذه التسوية في ضوء تجربة الشهور العشرة الماضية؟ مع ذلك، يتّفق كثيرون على أن ما حدث كان «بداية مهمّة جدّاً»، كما قالت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاترين أشتون، و«خطوة مهمّة للأمام» من شأنها أن تسمح لليمنيين «بدء معالجة مجموعة من التحدّيات»، كما يرى الرئيس الأميركي باراك أوباما، وإن تكن قد جاءت متأخّرة عملياً نتيجة سلسلة المناورات التي قام بها صالح... قبولاً بالمبادرة، ثم تحفّظاً على بعض بنودها، ثم عدم توقيع إلا بشروط، وصولاً في المرحلة الأخيرة الى تمريرها من خرم الأبرة.
هل أنتهت الأزمة؟
غداة توقيع اتّفاق نقل السلطة، شهدت الساحة اليمنية تطوّرات متلاحقة يعتقد أنها تعطي مؤشّراً الى اتجاه مسار الأحداث. فقد شهدت العاصمة اليمنية صنعاء ومناطق عدّة في البلاد، تظاهرات من شباب الثورة الرافضين للتسويات السياسية التي تمنح صالح وأقرباءه ومعاونيه حصانة من الملاحقة القضائية، مطالبين بإحالة هؤلاء جميعاً على المحاكمة، أقلّه بسبب ما ارتكبوه من جرائم بحق المتظاهرين وحمّام الدم الذي أقاموه في البلاد في الفترة الماضية.
يؤكّد ذلك أن علي صالح، الذي أصبح «رئيساً فخرياً»، قد سارع الى إصدار بيان دعا فيه السلطات ال?منيّة الى اعتقال المتسبّبين في العنف، رغم أنه كما يفترض قد تنازل عن سلطاته، وفاقاً للاتفاق!: وكما قال عضو المجلس الأعلى لأحزاب «اللقاء المشترك»، عبده رزاز صالح، فإن هذا الموقف من علي صالح «مثّل أول نقض للاتفاق». ذلك أنه، في الوقت الذي اعتبر فيه التوقيع على المبادرة «خبراً سارّاً لليمنيّين»، فإن العديد من المراقبين تساءلوا عن الأسباب التي أدّت الى التأخّر طوال هذه الفترة. كذلك، فإن خطاب صالح عقب التوقيع أشار الى أن الرجل لا يزال يعتبر نفسه في طور المواجهة، وليس المصالحة، ولذلك فسيبقى «خطر حصول مواجهات قائماً، طالما بقيت القوى المحسوبة على نظام صالح موجودة في مواقعها.
أكثر من ذلك، فقد فاجأ صالح اليمنيّين بعودته الى صنعاء، مع أنه كان معلناً أنه سينتقل الى نيويورك لمتابعة العلاج. ثم بإعلانه (مع أنه لم يعد يملك سلطة) عفواً عاماً في البلاد باستثناء المتّهمين بمحاولة اغتياله. وكل ذلك للتدليل، من جانبه، على أنه ما يزال الرئيس. هل تعب صالح من «لعبة الرقص» التي أجادها سابقاً، أم لا تزال هناك مخاوف من أن يتراجع عن الاتفاق في أي وقت، وماذا سيكون الموقفان العربي والدولي في هذه الحالة؟.
ردّاً على هذه الأسئلة، قال عبده رزاز صالح: «كل الاحتمالات مفتوحة»، لكنه أضاف أنه يعتقد أن المجتمع الدولي لن يسمح بذلك. واتّفق معه في ذلك فارس السقاف، مدير مركز دراسات المستقبل في صنعاء، قائلاً إن صالح «كما نعرفه يمكن أن يشعل الأمور، وهناك تجارب مريرة معه لجهة الانقلاب على الاتّفاقات، وإن تكن الخيارات أمامه محدودة الآن». ويعتقد السقاف أن الرئيس اليمني ربما يكون قد «تعب فعلاً من الرقص على رؤوس الأفاعي»... العبارة التي كان يشبه بها صالح المخاطر المحدقة بمن يحكم اليمن.
فبعد حرب فعليّة، شنّها علي عبد الله صالح ضد معارضيه، وأدّت الى سقوط أكثر من 1300 قتيل وعشرات آلاف الجرحى، نصّ الاتفاق الذي تمّ التوقيع عليه بحضور خليجي وديبلوماسي دولي على نقل سلطات الرئيس اليمني إلى نائبه، على أن يظلّ رئيساً شرفياً للبلاد مدة تسعين يوماً حتى يجري اختيار الرئيس الجديد، إضافة إلى منحه حصانة من الملاحقة القضائية، وهو البند الذي لقي اعتراضات واسعة من قبل الثوّار وداخل اليمن كلّه.
وفي هذا السياق، أشارت صحيفة «التايم» البريطانية إلى أنه بالرغم من توقيع صالح المبادرة الخليجية، لا يبدو أن انفراجاً ظهر في الأفق بشأن ما حدث، وعلى وجه الخصوص في ساحات التغيير التي كانت سبباً مباشراً في إزاحة صالح عن منصبه، وتالياً عن الحياة السياسية اليمنية كلّها.
معارضو الاتفاق
فمن جهة، ظهر موقف معارض لتوقيع المبادرة من أعضاء المجلس الوطني لقوى الثورة، الذين ذهب عدد منهم إلى حد إعلان «البراءة» مما وقّعت عليه المعارضة مع صالح، مؤكّدين أن الاتفاق لم ينل في أي وقت موافقة أعضاء المجلس الوطني لقوى الثورة. ومن جهة أخرى، ظهر الانشقاق واضحاً بين صفوف شباب المعارضة الموجودين بكثرة وأغلبية في داخل تلك الساحات وبين قياداتهم الحزبية، انعكس بخروج مسيرات احتجاجية سابقة لحفلة توقيع المبادرة وبعدها مباشرة، رافعين شعارات مندّدة بالتوقيع، ومتّهمين المعارضة النيابية بالمشاركة في ما وصفوه ب«مؤامرة» تسهيل خروج صالح ونجاته من أمر المحاسبة. ورأت الصحيفة أن المعارضة لم تكن مرتاحة لهذا الاتّفاق، ونقلت عن أحد قادة الشباب، واسمه إبراهيم محمد السعيدي، إن الثورة لم تنته بعد، وعبّر عن شكوى العديد ممن بدأوا الاحتجاجات في كانون الثاني (يناير) الماضي، والذين عانوا العنف الذي مارسته قوّات صالح ضدّهم، مشيراً إلى أن تقديم الحصانة للرئيس اليمني يمثّل سخرية من العدالة «نريد أن نرى صالح في المحكمة، من أجل شهدائنا».
وفي ساحة التغيير، مركز الاحتجاج في صنعاء، لم يقم المتظاهرون بأي خطوة تشير إلى نيّتهم فك خيم الاعتصام. ويقول الدكتور طارق النعمان، وهو جرّاح القلب الذي أسّس المستشفى الميداني لحركة الاحتجاج في مسجد مجاور: «هذا الاتّفاق لا يوفّر حلولاً للمشاكل الحقيقية في اليمن، ولا يفعل شيئاً لوقف الفساد وانتهاكات السلطة».
وأضاف الى ذلك قوله: «لا شيء سيتغيّر إذا بقي هؤلاء في الحكم»، مشيراً إلى أن الاتّفاق لم يشر رسمياً إلى المقرّبين من صالح وأفراد أسرته الذين يسيطرون على الجزء الأكبر من الاقتصاد، ووسائل الاعلام، والقوّات ال?سلّحة والخدمات الحكومية.
«تركة» ما بعد صالح
يترك صالح وراءه إرثاً من الفساد والتوتّر، فاستراتيجيات بقائه في السلطة راوحت بين تأليب القبائل ضد بعضها بعضاً، وغضّ الطرف عن تنظيم «القاعدة» الذي اكتسب موطئ قدم في البلاد، لا لشيء إلا بهدف استخدام «التوسّع الارهابي» كذريعة لحشد التأييد الغربي لحكمه وتمويل قوّاته المسلّحة.
وفي الوقت الذي اكتسبت فيه حركة الاحتجاج الشعبية زخماً كبيراً في اليمن، وتأييداً عربياً ودولياً في الخارج، أهمل صالح حركة الحوثيّين في شمالي البلاد والحركة الانفصالية المتنامية في الجنوب، فيما اتّخذ تنظيم «القاعدة» في مقابل ذلك وبسبب صالح نفسه دوراً أكبر وأكثر ضراوة عندما نجح في السيطرة على اثنتين من المدن اليمنية الساحلية.
وبالرغم من أن علي عبد الله صالح رجل يكنّ الأحقاد في داخله، كما يقول الكثيرون، ومن أن توقيعه على المبادرة التي تسلّم الحكم لنائبه يعتبر ضربة موجعة لغروره، إلا أنه يترك وراءه كأساً مسمومة ربما تحقّق له الانتقام الذي يسعى إليه، عندما يقرّر ذلك.
هذا على صعيد الصراع على السلطة، أما بالنسبة لمستقبل اليمن، فمن المتوقّع أن يصبح اليمن، الذي يعتبر أفقر دولة في منطقة الخليج، خالياً من النفط الذي يتوقّع أن ينضب خلال العقد الحالي، كما سيفقد ثروته المائية في غضون العقدين المقبلين.
كما أن مشاكل البلاد القديمة وغير المعالجة قد تطفو مجدّداً على السطح، كقضيّة مستقبل الجنوب ومسألة الحوثيّين وتنظيم القاعدة