ترددت كثيرا قبل أن أكتب عن مدينة هرجيسا اجتهدت ألا أبدأ بها في هذه السلسلة التعريفية لأننى خشيت إن بدأت في وصفها أن أتوه في جمالها و عشقها فأجحف في حق المدن الآخرى في الصومال فأذرهم كالمعلقة فالقلب و ما يهوى يا سادة. لا تلوموني في حبها فلطالما كتبت عنها و تغنيت بجمالها الآخاذ فهي أميرة أحلامي و عروسة مناماتي, فيها أبصرت النور و خرجت إلى الوجود. هرجيسا مدينة لها سحر و رونق خاص قد لا تستشفه كاملا من بين ثنايا الصور ولكن ما أن تعيش فيها لفترة حتى تدرك هذا الرونق و تصبح أسيرا لسحرها الآخاذ. توقفت طويلا عن الكتابة و تبعثرت كلاماتي و أنا أتأمل اسم مدينتي الحبيبة هرجيسا مخافة ألا أفيها حقها أو أقصر في التعريف عنها فلا أرضى لها سوى الكمال و الرقى و السؤدد. ولم أجد خيرا من أبيات الشاعر العراقي المعروف الرصافي تصف مقدار حبي لهذه الأرض الطيبة حيث يقول الشاعر:
ولي وطن أفنيت عمري بحبّه وشتَّتُ شملي في هواهُ مُبِدَّدا ولم أرَ لي شيئاً عليه وإنما عليَّ له في الحبّ أن أتشدّدا وسيّرت فيه الشعرَ فخراً فطالما شدوتُ به في مَحْفِل القومِ مُنشِدا
الموقع و الجغرافيا: تقع مدينة هرجيسا على هضبة مرتفعة يصل إرتفاعها إلى 4377 قدم (1334 م) فوق سطح البحر في إقليم مرودي جيح و هي عاصمة جمهورية صوماليلاند . تتميز هرجيسا بمناخها المعتدل في معظم أوقات السنة لذلك تعتبر من أهم المصائف في منطقة القرن الأفريقي و يزورها الكثيرون في فصل الصيف من مدن الساحل الحارة وحتى من الدول المجاورة كجيبوتي للهروب من حر الصيف إلى جو هرجيسا المنعش, مدينة هرجيسا بنيت على ضفاف وادي يقسمها إلى شطرين و تتكون المدينة من خمسة مديريات رئيسية و يقدر عدد سكان العاصمة هرجيسا بحوالي المليون نسمة. نظرة تاريخية: إن أقدم آثر وجد في منطقة هرجيسا هي كهوف لاس قيل التي اكتشفت حديثا أواخرعام 2002م من قبل بعثة آثار فرنسية و تضم هذه الكهوف مجموعة من الرسومات الموغلة في القدم و التي تعود إلى العصر الحجري الحديث و يصل تاريخ بعضها إلى 9 آلاف سنة قبل الميلاد و تركز هذه الصور على البقر خاصة و مجموعة أخرى من الحيوانات كالزرافات و الفيلة وكذلك تصور هذه الصور مجموعة من الناس بجوار هذه الحيوانات. تعتبر هذه الصور النادرة ذات الألوان الزاهية تراثا عالميا و لكنها مهددة بالإندثار في حال لم تجد العناية اللازمة من المختصين, هذا الموقع التاريخي لديه كل المؤهلات حتى يصبح مزرار سياحيا عالميا في حال وجد الدعاية اللازمة و إظهار الأمن و الأمان الذي تنعم به صوماليلاند و الامر منوط بسكان صوماليلاند للحفاظ على هذا الكنز التاريخي العالمي. الشيخ مطر و دور العلماء في بناء المدينة: هرجيسا كمدينة تعتبر مدينة حديثة العهد تم إنشاءها في نهاية القرن التاسع عشر و ليست كبربرة أو زيلع من مدن الساحل التاريخية فقديما كانت معظم مدن صوماليلاند تقع على ساحل خليج عدن أو بحر بربرة كما سبق و أشرنا في موضوع بربرة بينما المناطق الداخلية تعتبر بادية يتنقل فيها الرعاة حسب فصول السنة. و اختلفت الروايات عن سبب تسمية المدينة بهذا الإسم فقيل أنها سميت نسبة إلى مدينة هرر التي قدم منها مجموعة العلماء التي استوطنت هرجيسا و كانت تسمى أيضا بهرر فتغير المسمى لاحقا إلى هرر– جيسا بمعنى (الموصلة إلى هرر), وقيل أنها سميت بهذا الإسم نسبة إلى الجلود المدبوغة و التي كانت تباع و تشترى في المدينة , و في رواية أخرى قيل أن معناها أرض الشوك بلغة الأورومو السكان الأصليين للمنطقة قبل أن يطردهم منها الصوماليون. كانت المنطقة الحالية التي تقع فيها هرجيسا واديا مهجورا تكثر فيه الأشجار المتشابكة و كانت أشبه بغابة شوكية و كان الرعاة يتجنبون المشي داخل الوادي لثلاثة أسباب: أولا بسبب الثعابين السامة التي كانت تكثر في المنطقة ثانيا بسبب الأسود الكبيرة و الضخمة و التي كانت لا توفر إنسانا أو حيوانا و ثالثا البعوض المنتشر في المنطقة والذي كان يجلب الحمى و المرض.لكن كانت هناك عدة قبائل رعوية تسكن في الآبار القريبة خاصة بئر أو برخدلي و بئر حرف و كانت المنطقة مسرحا للحروب القبلية و الغارات الرعوية لغرض السطو على قطعان الماشية, إلى أن قدم الشيخ مطر للوادي قادما من هرر في منتصف القرن التاسع عشر حيث تلقى تعليمه الديني و معه مجموعة من العلماء الأفاضل مثل حاجي عمر حرسي و الشيخ أحمد بون و حاجي فارح إسماعيل و شيخ محمد عبدالله و شيخ هارون شيخ علي و الشيخ حسن قولييد. هناك عدة روايات لماذا اختار العلماء الإستقرار في هذه المنطقة بالذات لكن المهم أنهم استقروا فيها و نقلوا إليها حرفة الزراعة التي تعلموها في مدينة هرر و أرسوا القواعد و الشريعة التي تفصل بين القبائل المتحاربة و بنوا أول مسجد في المنطقة المعروفة ب ” جماعة وين” هذه الجماعة الدينية كانت سببا في استتباب الأمن و كانت عامل جذب مهم لتتجمع القبائل و تسكن جنبا إلى جنب في مدينة واحدة بسلام و أمان دون أن يسطو أحد على أحد , يقول الكابتن Swayne والذي مر في رحلة في صوماليلاند بين عامي 1887 م و 1893م (( هرجيسا هي قرية صغيرة و مكونة من 400 بيت صومالي و القرية محاطة بسور طويل و تحيطها مزارع الذرة التي تتبع لشيوخ مختلفين , شيخ مطر هو زعيم هرجيسا و هو رجل ذو طبع محبب و يلبس الملابس العربية )). هرجيسا الحديثة: كانت هرجيسا في بداية القرن العشرين مدينة صغيرة و لكنها ازدهرت مع توافد التجار عليها و لإشتهارها بالأمن و الأمان و تطبيق أحكام الشريعة على المخالفين كما كانت تتميز بجوها الرائع و توفر المياه و الزراعة كل هذه العوامل كانت عامل جذب لمختلف القبائل للقدوم و السكن في المدينة بعيدا عن حياة البادية و الترحال. شيئا فشيئا بدأت هرجيسا تسرق الأضواء عن مدينة بربرة التاريخية وفي عام 1941م أصبحت هرجيسا العاصمة الرسمية لمحمية صوماليلاند البريطانية حتى جلاء المستعمر في 26 يونيو 1960م وقتها تم إعلان هرجيسا عاصمة لجمهورية صوماليلاند المستقلة و لكن للأسف لم تنعم المدينة بهذا اللقب سوى خمسة أيام حينما تنازل أهل صوماليلاند عن استقلالهم بهدف تشكيل دولة الصومال الكبرى مع إخوانهم في الصومال الإيطالي و خسرت هرجيسا لقب العاصمة لمقديشو في الأول من يوليو 1960م. منذ ذلك التاريخ بقيت هرجيسا مهملة لا تنال نصيبها من التنمية و التطور الذي كانت تنعم به العاصمة مقديشو رغم أنها كانت تصنف بأنها العاصمة الثانية للجمهورية الصومالية. حتى أنه كان يمنع أن تبنى فيها المنازل التي تزيد عن طابق إلا بإذن الحكومة التي كانت توجه كل أموال الدولة لتنمية العاصمة المركزية. مضت الأيام حتى أتى عام 1988م ذلك العام الذي شهد وحشية لا مثيل لها حينما كانت طائرات الحكومة المركزية تقلع من مطار هرجيسا لتقصف هرجيسا و سكانها في محاولة لإبادة المدينة عن بكرة أبيها في عصر كان الإعلام مغيبا فاستفرد طاغية مقديشو بالسكان العزل و أخذ يقتلهم و يزرع الألغام و الموت في كل ركن من أركان المدينة. هرجيسا في هذه الفترة كانت أشبه ما تكون بهيروشميا اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية , مدينة مدمرة لا يسكنها إلا الأشباح و الجثث منتشرة في كل مكان و رائحة الموت تزكم الأنوف. انتصر شعب صوماليلاند المجاهد على الطاغية و جنده بفضل الله عزوجل و في 18 مايو 1991م تم الإعلان عن استعادة استقلال جمهورية صوماليلاند و عاصمتها هرجيسا, هنا عاد للمدينة مركزها و اعتبارها المفقود طوال عقود الإتحاد المأسوف عليه لكن كان أمام أهلها مهمة صعبة في النهوض من الأنقاض. حتى أن هناك من اقترح أن تترك هرجيسا مدمرة كما هي و تبقى كمتحف حي و شاهدا على الدمار الذي لحق بها و تبنى مدينة جديدة مجاورة لها تكون العاصمة الجديدة و لكن أهلها أبو إلا أن يعيدوا بناء ما تهدم متوكلين على الله. اليوم حينما تزور هرجيسا لا تكاد تجد أثرا لتلك المدينة المهدمة بل ترى مدينة مليئة بالحياة مفعمة بالأمل و واحة للأمن و الأمان و الديمقراطية في بيئة صعبة محاطة بالكوارث و المشاكل من كل جهة. التجارة مزدهرة في المدينة حيث تصلها البضائع من كل مكان و التعليم ازدهر فسابقا في عهد الإتحاد لم تكن هناك جامعة واحدة في المدينة بل في كل صوماليلاند اليوم هناك جامعات عديدة و مدارس عديدة بين حكومية و أهلية تستقبل الطلاب و يتولى تعليمهم معلمون نذروا أنفسهم لخدمة وطنهم و أهليهم و أشهر هذه الجامعات جامعة هرجيسا و جامعة أدمس و جامعة القرن الإفريقية. هرجيسا عمرها قصير و قد عادت للحياة و ولدت من جديد قبل عشرين سنة فقط لتعود لمكانها الطبيعي قائدة لمسيرة صوماليلاند نحو النهضة و التنمية و كل يوم نرى تطورا إيجابيا في هذه المدينة النامية بسرعة الصاروخ و التي تحتاج إلى بعض التنظيم و الجهد و الإستثمارات الإقتصادية لتصبح في المستقبل القريب من أجمل المدن الأفريقية و أكثرها حيوية و نشاطا. عواله سعيد أحمد