عندما انطلقت الطائرات والمدفعية لتدك مدينتي “ هرجيسا “ و “ بربرة “ الصغيرتين في شمال الصومال قبل عشرين عاماً لم يدر بخلد أحد أن تلك هي المقدمة لسقوط نظام “ سياد بري “ العتيد المقيم في جبروت القوة والهيمنة الميدانية على المقدرات، ولم يتصور عرّابو النظام انهم إنما يحفرون قبورهم بأيديهم، وانهم سيدفعون ثمناً باهظاً لسنوات الجمر والمتاهات الطويلة . قيل يومها ان “ بربرة” و “هرجيسا “ مدينتان مُتمردتان، وانهما معقل لجماعات “ انفصالية “ رافضة لوحدة الأرض والشعب الصومالي، كما اعتبر المنفذون الميدانيون من عُتاة الطغمة العسكرية أن أمر الحسم جاهز سهل، وزهيد الثمن، فالمجاميع المتمردة الصغيرة لا يمكنها ان تصمد أمام الجيش وقوته، وهذا ماحدث ميدانياً، فقد استتبت الأوضاع في المدينتين بعد الحملة العسكرية الشاملة التي شنّتها الدولة على “ المتمردين “ هناك . لن الغرائب توالت بعد ذلك، فقد سرت حُمّى “ التمرّد “ في مختلف أرجاء البلاد وصولاً الى العاصمة “ مقديشو” معقل الدولة والقوة والمال، وكان على “ سياد بري” وحلفائه أن يديروا حروباً متعددة ومشابهة لتلك التي حدثت في الإقليم الشمالي من الدولة، غير ان “ مقديشو” ليست “هرجيسا “ أو “ بربرة “ ، وتداعيات الأحداث فيها تشمل أكثر من مليوني انسان يعيشون في العاصمة ويمثلون العمق البشري الأكثر كثافة، وينحدرون من مختلف المناطق والقبائل والعشائر، فكيف للنظام أن يرتب أوضاع العاصمة بنفس المنطق الذي جرى في مدينتي هرجيسا وبربرة الصغيرتين ؟ وكيف له أن يستخدم الطائرات والدبابات في قصف العاصمة ؟ ماهي إلا أيام قليلة فاذا بالتمرد يتحوّل إلى حرب شوارع ضد الدولة ورموزها، وكان من البديهي أن يأتي رد الفعل من الحكم بذات الروح العنجهية الموصولة بالاعتقالات وتنفيذ أحكام الإعدام كما حدث مع أئمة بعض المساجد في العاصمة مقديشو ، لكن هذه العنجهية لم توقف اشتعال الفتيل، بل سرت الحمّى بين أوساط الشعب حتى إن بعض العسكريين تخلوا عن أسلحتهم عندما وجدوا أنهم إنما يواجهون شعبهم بالذات ! . من هنا بدأ الانهيار الكبير، وتساقطت اوراق خريف البطريرك، وسرت حمى النار غضباً عارماً أحرق الأخضر واليابس، ومتاهة ادخلت المجتمع في حرب أهلية مازالت تستعر منذ عقدين من الزمان، ولقد كان “ سياد بري “ رائياً للمحنة القادمة عندما طلب من أنصاره ترك مخازن الأسلحة مفتوحة للمقاتلين، جازماً بانهم سيتقاتلون عشرين عاماً !! الوقائع والشواهد التي أحكيها في هذا المقال سمعتها من معاصرين وشهود عيان لتلك الأيام، وهي تستحق التوقف في مثل هذه الظروف التي تواجه فيه العديد من الانظمة العربية تمردات داخلية وبأشكال مختلفة . إن قراءة المشهد الصومالي عبرة لمن يعتبر، فهل تعتبر الانظمة العربية القابعة في وهم الحل بالقوة مما حدث لنظام كان الثاني في افريقيا من حيث ترسانته العسكرية وأجهزته الأمنية ؟؟ ! .